بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 آب 2021 10:25م رحمك الله يا سماحة «المفدّى» الشيخ خليل الميس

حجم الخط
منذ فترة وأنا أستذكر أسماء ثلّة كبيرة من علمائنا الذين عاشوا حياتهم في خدمة كتاب الله تعالى وسنّة رسوله الكريم  صلى الله عليه وسلم وأيضا انعكس عملها على أرض الواقع خدمة للمجتمع وأهله، فأعطوا وعملوا على توعيتهم بالعلم الصحيح واليقين التام والإرشادات والتوجيهات المباركة والأعمال الصالحة، ثم إذا ما جاء أجلهم... اختفت تلك الأعمال أو على أحسن تقدير... استمرت بفتور وخمول دون أن يُذكر أصحابها الذين أسّسوا لها..!؟

ومن هؤلاء الكبار المفتي الشيخ خليل الميس الذي ومنذ أن رحل وأنا عاجز عن الكتابة عن تلك القامة التي قلّ نظيرها في بلادنا...

فالمفتي الميس والمفتي أحمد اللدن رحمهما الله كانا أبرز الذين لعبوا دورا كبيرا في حياتي وفكري، حتى كنت اعتبر نفسي صديقا لهما، رغم الفارق الكبير قيمة وقامة بيني وبينهما، وللحقيقة أنهما أيضا لم يشعراني بهذا الفارق أبدا، بل العكس تماما.

المفدي الصديق

واسمح لنفسي أن أقول أن علاقتي بالراحل الكبير «المفدي» الشيخ خليل الميس - كما تعوّد أن أناديه - لم تكن علاقة تقليدية أو نمطية، بل كانت أكبر من ذلك وأوسع، فقد كان رحمه الله تعالى يطمح مع تلامذته بتخريج رجال فكر يناقشون ويحللون ويعملون العقل لا مجرد أناس حفظوا بعض الأحكام والأصول وانتهى الأمر، وكم من مرة تناقشنا وسمح لي بالاختلاف معه، والأجمل أنه كم مرة طلب مني أن نجلس معا نشرب القهوة وأوضّح له بعض الأمور المستجدّة أو بعض القضايا الحديثة التي كما كان يقول لي : (هاي لجيلكم مش إلنا)... قاصدا أنها من اختصاص أبناء جيلي.

كم من مرة اتصلت به فيرد عليّ بظرفه المعهود قائلا: Hello My name is Khalil Al-Mays، وحين أردّ يقول ضاحكا: (ما بحكيك على الهاتف قوم تعى نشرب قهوة أنا ببيروت).

وما أن آتيه وأجلس معه حتى أجد نفسي في كل مرة أمام علم من أعلام العلم والفقه والبلاغة والأدب والتواضع والفكر الواسع، وأيضا أمام قدوة في التعامل الرقيق والبسيط مع كل الناس على اختلاف درجاتهم ومستوياتهم، يعامل الكل كما لو كانوا أقرب الناس إليه فيكرمهم ويتلاطف معهم، لم يقصده أحد إلا لبَّاه، لم يسأله أحد إلا أجابه، فأحبّه الناس جميعهم.

حتى في محاضرته أثناء سنوات الدراسة كان مصدر بهجة وسرور وطمأنينة وفرح للطلاب، يستوعب الجميع ويحتوي الكل، ولعل كل من تعلّم على يديه يذكر قصة الـ 250 ليرة... فقد كان يأخذ من المخطئ والمتأخّر 250 ليرة (في وقتها) كغرامة على فعلته، ثم يجمع المال في نهاية المحاضرة ويدفعه في وجوه الخير، والعجب أننا كنا نتسابق وأحيانا نتعمّد التأخير حتى ندفع وننال الأجر، ومعه بعض الكلمات المبهجة من سماحته، ولذا تعلّمت على يديه الكثير، وأخذت منه حكما راقية في الأخلاق وفي الدعوة وفي التعامل وفي الخطابة وفي العديد من الأمور.

لا زلت أذكر تماما وصاياه وكلامه بعد حصولي على درجة الماجستير..

ولا زلت أذكر وصاياه أثناء قيامه بعقد قراني..

كم لا زلت أذكر حكمته ونظرته المستقبلية أثناء الأحداث التاريخية التي عصفت بالبلاد في العام 2005 وما بعده...

وأذكر جرأته في قول الحق في مختلف المناسبات..

كما أذكر زهده في الحياة وبساطته المعهودة التي جعلت كل الناس يتكلمون إليه في كل وقت دون مانع أو حاجز..

الشيخ خليل الميس كان المفتي الذي زار أرقى الدول وأفخم الأماكن ولكنه بقي ابن البقاع الأصيل الذي أثّر في الكل بشهامته ونخوته وطبيعيته.

كلمة للتاريخ

وهنا اسمحوا لي أن أقول وبكل أسف كلمة للمجتمع اللبناني عموما، وهي أن الراحل الكبير كان رجل مؤسسات... ورجل بناء وعلم للحجر وللبشر، وعار علينا أن نستمر في حالة التنكّر المخزي مع علمائنا..

وهذا الأمر يطرح تساؤلات كبيرة حول قضية غاية في الأهمية وهي مسألة التأريخ لأعمال وآثار وعلم علماء لبنان عموما، خاصة في عصر بات فيه التأريخ بكل وسائله وطرقه خطوة سهلة التنفيذ في ظل التطوّر التقني والمعلوماتي الضخم..!!

ولا نقول هذا الكلام اعتباطا.. وإنما نقوله من حرقة استقرّت في القلوب وحسرة تملّكت في النفوس بعدما رأينا جلّ آثار علمائنا الكبار قد ذهبت هباء فلا تذكّرها أحد.. ولا اهتم بها أحد.. ولا تابع مجرياتها أحد..!

فكيف بأعمال وتاريخ رجل كالشيخ خليل الميس الذي قرر مسيرة الاعمار في البقاع فكان باني المؤسسات التعليمية والتربوية والخيرية...

أيها السادة.. ليذهب أحد (أيا كان) اليوم إلى أي مركز أو مؤسسة أو مديرية، وليحاول البحث عن آثار العلماء الذين ملأ علمهم الأمصار وشاع آثرهم في البلاد منذ مائة عام وإلى اليوم، ماذا سيجد..؟! أو بدقّة أكثر.. كم كلمة سيجد عنهم وعن حياتهم وعن جهادهم وعن عائلاتهم وعن انجازاتهم في ميادين شتّى..؟!

وليحاول أحد.. أن يقوم بعملية جمع وتحقيق وتأريخ لتراث عالم من علماء لبنان، فإنه بكل أسف لن يجد إلا القليل النادر.. إن وجد..؟!

إننا وللأسف يوما بعد يوم.. نعلن «تبلور السوء» تجاه هؤلاء الأفاضل..؟!

ويوما بعد يوم نجاهر «بأصناف العقوق» لمن تركوا إرثا أهملنا فهمه وأسئنا استثماره...؟!

حتى في المراكز المتخصصة والمكتبات التي من المفترض أن تكون «بيت أعمال هؤلاء»... لا يجد الواحد منا فيها ما يستحقون...

نعم... علماؤنا الذين ضحّوا.. وتعبوا.. وتحمّلوا الكثير.. ثم أسّسوا وبنوا ورفعوا بنيان العلم والمؤسسات الإسلامية التعليمية والتربوية والدعوية في بلادنا... تعاني أسمائهم وأعمالهم اليوم من إهمال كبير.. والخوف الأكبر أن يكون مقصودا..!؟

إن من حق «المفدي» الشيخ خليل الميس علينا أن نحافظ على تراثه وعلى أعماله وعلى إنجازاته وعلى كل ما قام به في البقاع وفي غيره..

رحمك الله يا أستاذي.. ويا صديقي ويا معلمي.. ويا من كنت بأشدّ الأوقات تبتسم في وجهي وتقول بلهجتك البقاعية المحببة: (ما تعتلش همّ... أنت جدع وقدّها)..

رحمك الله تعالى ورزقنا البرّ لك ولعلمائنا .. الذين رحلوا فتنكّر الكثيرون لهم وأساؤوا لتاريخهم..؟!






bahaasalam@yahoo.com