بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 آذار 2024 12:12ص رمضان بين العادة والعبادة

حجم الخط
إن من أعظم منن الله على عباده افتراض شهر رمضان لتتحقق الغاية من هذه الفرضة وهي التقوى، ففي شهر رمضان المبارك، شرف الزمان، وشرف الإنسان يعتني الإنسان بغذاء روحه، ويسمو عن عالم الشهوات، يربّي نفسه، ويرقى بروحه، وينعم بزيادة الأجر، ومضاعفة الحسنات، حيث يتعرض لنفحات الله عزّ وجلّ وقد قال أهل العلم إن عادات السادة سيدات العادة فكيف إذا كانت عبادة فلا يصلح أن تتحوّل لعادة بل يلزم أن تتأكّد تلك العبادة ويتحقق المؤمن بأبعادها ومضامينها.
وما سُمّي رمضان كذلك إلّا لأنه يرمض ذنوب العباد فيحرقها ويذهبها والنبي # يقول من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه وإن للّه خواص في الأمكنة والأزمنة والأشخاص ورمضان من بين الخواص في الأزمنة كما أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر، وقد قال النبي # «بُعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له»، ولذلك كان رمضان منحة من الله تعالى وكرامة للمؤمنين خاصة وأن فرضية الصيام لها منزلة في الإسلام وهو شعيرة وركن من أركان الإسلام وهو باب عظيم من أبواب مغفرة الذنوب وستر العيوب والتخلّق بأخلاق الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكان الصائم في رمضان يتنقل بين ظلال الإكرام الإلهي ومداد الخير العميم فكل تصرف يقوم به الصائم يتنقل فيه في عبادة حتى وهو في نومه هو في عبادة، وقد قال النبي #: «قالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، فالهمّة العالية في رمضان من أخلاق الصائمين.
موسم الخير
ولا يصلح للصائم في رمضان أن يحوّله لعادة بل هو عبادة فضلا عن أنه لا يليق به أن يجعله شهرا لتضييع الوقت بالمسلسلات والأفلام والموائد، لأن في رمضان فرصة يلزم اغتمامها فربما عليه لا تعود، وإن رمضان له ميزة على سائر الشهور فهو شهر القرآن والله تعالى يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه}، فرمضان موسمً من مواسم الخير يغتنمه الأتقياء للاستزادة من صالح العمل، ويلقي بظلّه الظليل على العصاة والغافلين؛ فيتوبون، ويعاهدون ربهم على الإقلاع عما هم فيه، وقد يصْدُقون العهد، وقد يفشلون ويقعون في مهاوي الغفلة والنسيان؛ فالسعيد السعيد من جعل رمضان مجدداً للعزم والطاعة، وحافزاً للتمسّك بحبل الله، وفرصة يتزوّد فيها بزاد التقوى، والشقي الخاسر من مرَّ به رمضان كغيره من الشهور، لم يُعِرْهُ التفاتاً، ولم يتعرض لنفحات الله عزّ وجلّ فيه.
فالصوم ذا أثر كبير في تغيير سلوك الفرد والمجتمع، يعوّد الصائم على تحمّل المشاق في سبيل الله ويكون بصيامه صاحب مشاعر جياشّة رقراقة، يجوع فلا ينسى الجائع، ويعطش فلا ينسى الظمآن، ويمتنع عما أحلّ الله في نهار رمضان امتثالا ومحبة للّه تعالى وهو الممتنع عما حرّم الله تعالى في رمضان وغير رمضان لأن من لم يصم عما حرّم الله فعنده إشكالية في صيامه ولذلك ورد: ربّ صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع والعطش.
الصيام رسالة المواساة والتكافل
ومن هنا فقد اعتبر الإسلام أن الصيام رسالة المواساة والتكافل والخير والعطاء ولذلك كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان يجود بالخير كالريح المرسلة، وعندما نقرأ عن العلماء أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر قبل رمضان أن يبلغهم الله رمضان وبعد رمضان أن يتقبّل منهم رمضان نعلم أن القضية ليست مرور وقت بل القضية هي اغتنام هذا الوقت الذي يمرّ بأعلى درجات الاستعداد والاهتمام والحضور مع الله تعالى فهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
يقول النبي # «إِنَّ رَمَضَانَ شَهْرٌ افْتَرَضَ اللهُ صِيَامَهُ، وَإِنِّي سَنَنْتُ لِلْمُسْلِمِينَ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ خَرَجَ مِنَ الذَّنْبِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وإن على المؤمن أن يحمد الله تعالى ويشكره على نعمه الظاهرة والباطنة ومنها شهر رمضان، وبمجرد دخول شهر رمضان على المسلم وهو في صحة جيدة نعمة عظيمة تستحق الشكر والثناء على الله المنعم المتفضّل بها.
ويمكن القول بأن المؤمن يسعد برمضان وله يستعد، ويكون ذلك بالتحلل من جميع المظالم سواء كانت في حق الله أم في حق العباد؛ إن كانت في حق الله فإنها تحتاج إلى التوبة النصوح وكثرة الاستغفار، وإن كانت في حق العباد فيجب أن ترد تلك المظالم إلى أصحابها وأن يطلب منهم المسامحة والصفح، يقول النبِي # قال: «من كانت عنده مظلمة من أخيه من عرضه أو ماله فليتحلله اليوم، قبل أن يؤخذ حين لا يكون دينار ولا درهم، وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه».
إن بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه ويدلّ عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في المنام سابقا لهما فقال النبي #: «أليس صلّى بعدهما كذا وكذا صلاة وأدرك رمضان فصامه؟! فو الذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض».
ومن هنا وواقع الأمة يستوجب منا أن نتهيّأ لرمضان ونتهيّب الغفلة عنه لأن البلاء لا ينزل إلّا بذنب ولا يرتفع إلّا بتوبة، علّ أن يرفع الله الكرب عن هذه الأمة، وبالتالي إنها فرصة من أعظم الفرص للإقبال على العبادة والتعرّض لنفحات الرحمات والخيرات من الله تعالى، يقول النبي #: «اطلبوا الخير وتعرّضوا لنفحات الله، فإن للّه نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء، واسألوا الله أَن يستر عوراتكم وأَن يؤمن روعاتكم».