بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 تشرين الثاني 2022 12:00ص في زمن المِحَن والأزمات: على الخطباء زراعة الأمل والثقة ومواجهة الفساد وأهله 1/2

الشيخ د. أسامة حداد الشيخ د. أسامة حداد
حجم الخط
يوم الجمعة يوم عظيم عند المسلمين، إذ يرتادون المساجد لأداء صلاة الجمعة وسماع خطبة الجمعة التي تحتل موقعاً مهما ومتميّزاً في تبليغ الدين ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات.
فلخطبة الجمعة أثر كبير في حياة المؤمنين، فهي التي تعالج مشاكل الناس وتهدّئ النفوس الثائرة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتردّ المظالم، فهي صوت المظلومين.
والقاعدة المهمة في خطبة الجمعة أن يختار الخطيب ما يحتاجه الناس وما يخفف من أزماتهم ومشاكلهم في ظروفهم الصعبة.
فأي دور لخطبة الجمعة في أيامنا هذه؟ وما المطلوب من الخطيب في زمن الأزمات؟... هذا ما سنعرضه في تحقيقنا التالي:

حداد
بداية قال المفتش العام للأوقاف الاسلامية الشيخ د. أسامة حداد:
إن الأزمات المتتالية تورث القلوب ضعفاً، ويأساً، ويكاد كثير من الناس يقعون في سوء الأدب مع الله حين يشكّون في اقتراب الفَرَج، وهنا يتجلّى دور خطباء الجمعة والدعاة في بث البشارات في قلوب الناس، وتعزيز ثقتهم بوعد الله حين قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [سورة النور:55].
هذا وعد الله الذي لا يُخلف الميعاد، وبشارة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحى، وذلك حينما كان يبشّر صحابته ويزرع فيهم الأمل والتفاؤل بأن نصر الله قريب.
ولما اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم  في المدينة المنورة جميع أحزاب المشركين واليهود، إضافة الى مكر المنافقين، في غزوة سُمّيت بغزوة الأحزاب (الخندق)، ووصف القرآن الكريم حال المؤمنين بقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [سورة الأحزاب: 11].
وفي هذه الأزمة الشديدة والمسلمون يعانون من شدّة البرد، والجوع حتى ربطوا على بطونهم الحجارة، ومع ذلك يحفرون الخندق ويجدون صخرة عظيمة لا تنفع معها المعاول، فلجأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأخذ المعول بيده الشريفة، ويضرب أول ضربة، ويقول: «الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام، والله! إني لأرى قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأرى قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأرى قصور صنعاء من مكاني هذا».
حتى قال المنافقون: إن محمداً يعدنا أنه يفتح بلاد الروم وبلاد كسرى، ونحن لا يأمن أحدنا أن يخرج إلى الخلاء.
نعم إنه واجب الدعاة في الأزمات أن يبشِّروا الناس ويزرعوا فيهم الثقة بالله.
لما جاء التتار بجحافلهم كالجراد، قال بعض الناس: لن تقوم للإسلام قائمة بعد هذا اليوم..
ولكن هذا دين الله، سينصره الله بنا أو بغيرنا، وهذه أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، هي أمة تُجرَح ولا تُذبَح، تَمرض ولا تموت، ومن ظن أن هذه الأمة تموت فإنه جاهل بطبيعتها، وجاهل بحقيقة دينها، هذه أمة تتعثر وتتلكأ في مسيرتها لكنها لا تنبطح أبداً؛ لأنها منصورة من الله عزّ وجلّ.
كان التتار لا يعرفون الرحمة، يقتلون الأطفال والنساء، ولكن المسلمين صمدوا بفضل علمائهم، حتى دخل كثير من التتار في الإسلام، وصاروا جنوداً وملوكاً في الإسلام، وفتحوا في القارة الهندية بلاداً أدخلوها في الإسلام.
وقد جرت العادة أن الغزاة يؤثّرون بدينهم في المجتمع الذي يغزونه، أما أن يتأثر الغزاة بدين المجتمع الضعيف المحتل، فهذا غريب.
وهذا تحقيق لوعد الله وللبشارة النبوية: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة الصف: 8- 9].
وان هذه الأمة لا يصيبها الوهن إلّا بقدر تخلّيها عن دينها، وما من جيل تمسّك بدينه إلّا انتصر مهما كان ضعيفاً، ونحن ما أحوجنا اليوم إلى أن نبثَّ الأمل في زمن المحن، وأن ندخل التفاؤل واليقين في قلوب الناس، إن الله حافِظٌ دينه بنا أو بغيرنا، فلنتشرّف نحن بخدمة هذا الدين.
ولنبثّ الأمل والمبشّرات التي تربط القلوب بالله -عزّ وجلّ- واليقين بأن النصر حليفنا إذا كنا متمسّكين بديننا وقيمنا وأخلاقنا.
ومهما طال البلاء فلا تيأسوا.. فقد يطول البلاء ليعظم العطاء.. فثقوا بالله واسألوه اللطف والفرج القريب..
وانظروا معي إلى قصة سيدنا يوسف عليه السلام، عندما رماه اخوته في البئر ثم بعد فترة وجده عابرون للطريق فأخذوه وباعوه وأصبح عبداً، ثم دخل السجن لسنوات، وببركة طاعته للّه نجاه الله ورفعه ليصبح وزير المال ثم يصبح حاكم مصر...
بالله عليكم، لو كنا مكان يوسف عندما كان في البئر ماذا ستكون أقصى أمنيتنا؟ ستكون حتماً أن نخرج من تلك المحنة، وأن نخرج من البئر..
وليس أكثر.. ولا يخطر ببال أحد أنه بعد تلك المحنة منحة كبيرة وعطاء واسع من الله تعالى.. حيث أصبح ملكاً..
ونحن الآن في هذه الأزمات لو شاء الله لحقّقَ لنا مُرادنا في طرفة عين، فهو لا تخفى عليه دموع رجائنا ولا آهات همومنا، ولا يعجزه إصلاح حالنا، لكنه سبحانه وتعالى يبتلي خلقه ليرجعوا إليه ويتوبوا، ويندموا على تقصيرهم في حقه، قال الله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الأعراف 168].
فإن صبرنا ورجعنا إلى طاعة الله سيكون العطاء من الله كبيراً، ألم يقل ربنا: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة المؤمنون 111] لم يقل: بما صلوا، ولا بما صاموا.. بل قال: «بما صبروا» لأن الصبر عبادة لا يستهان بها.
ولكن ليس من حكمة الدعاة والخطباء دعوة الناس إلى الصبر فقط، فالصبر على البلاء فضيلة شرعية أوصانا الله بها، ولكن هذا الصبر لا يمنعنا من محاربة الفساد أينما كان، بشتى الوسائل المتاحة بما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، فإننا في لبنان نعاني من جهنم الدنيوية التي أوصلنا إليها أحدهم، ووصل حرّها إلى المواطنين بمختلف أطيافهم، يتجرعون يومياً كأس الذل والفقر والخوف وفقدان الحاجات الأساسية، في ظل غياب تام للدولة عن معالجة الأزمات، وإذا أرادوا تنفيذ القانون، فتراهم لا ينفذونه إلّا على من لا واسطة له ولا نصير، في حين أنهم يعجزون عن توقيف المهرّبين واللصوص الكبار والتجار المحتكرين، والمتلاعبين بالدولار وبلقمة عيش المواطن، مما أدّى إلى تتابع الأزمات، من غلاء فاحش، إلى انقطاع الكهرباء، وشحّ المحروقات، وانعدام الأمن، وفقدان الدواء، وتدهور القطاع الصحي، والإهمال في الدوائر الحكومية، حتى أصبحت مواجهة الفساد واجباً دينياً ووطنياً، وإن استمرار الولاء للفاسدين هو مشاركة لهم في الفساد وتمكين لهم في إذلال الناس وقهرهم، ونهب مقدرات الوطن، فلا تصدّقوهم، ولا تنخدعوا بشعاراتهم، ولا خطاباتهم، هم قوم فَقدَوا أدنى درجات الإحساس بالمسؤولية، مصالحهم فوق كل اعتبار، وهم المتخمة بطونهم بمال الشعب المسكين.. إنها مسؤوليتنا جميعاً في التصدي للفساد والاستبداد، قال الكواكبي رحمه الله: «العوام هم قوت المستبدِ وقوّته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون عنه كريما... يسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون لغير منافعهم... وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال» (طبائع الاستبداد، ص 49).
فعلينا رفع الصوت عاليا في وجوه الفاسدين لعلهم يرتدعون، وعلينا أيضاً إيقاظ المسؤولين النائمين لعلهم يستيقظون وينتبهون إلى مصالح مجتمعهم وشعبهم.
وهنا يتجلّى دور الدعاة وخطب الجمعة في توجيه الناس إلى تغيير واقعهم من خلال البدء من تغيير أنفسهم، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [سورة الرعد 11]، هذه الآية الكريمة هي دعوة من الله تعالى ليعمل المجتمع على تغيير ما في أنفس أفراده، فإذا غيَّر الأفراد ما بأنفسهم نحو الأفضل تغيّر المجتمع نحو الأفضل، وإن كان التغيير إلى الأسوأ كان تغيير المجتمع نحو الأسوأ، وهذا يؤكد أن الله عزّ وجلّ جعل مسألة التغيير بيد الإنسان، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال 53]. 
إنّ قرار التغيير في الحياة ليس فقط شعاراً، بل هو منهج حياة، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم عن القوم الذين كانوا يتأذون من قوم يأجوج ومأجوج فقال: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً..} [سورة الكهف]. 
ونحن نعاني في لبنان من حيتان الفساد ويأجوج ومأجوج السرقات، الذين أوصلوا البلاد إلى العتمة والإهمال وتراجع كافة الخدمات، وأوصلوا العباد إلى الهجرة من الوطن، أو إلى الغربة في وطنهم..
وقد أعطانا القرآن الكريم مثلاً واضحاً عن سلوك الفاسدين فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ فِي الحَيَوةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهَادُ} [سورة البقرة]. 
هذه الآية تعمّ بلفظها كل من يحسن الكلام والخطابات وينمّق العبارات، يجذب العقول ويؤثر في النفوس وينال إعجابها.. يعجبك قوله ولا يتورع على أن يكذب، وأن يعد ولا يفي، كما يحصل غالباً في خطاب القسم، وخطاب التنصيب، وخطابات الانتخابات... وبعد تلك الخطابات والوعود سعى في الأرض وانطلق ليفسد فيها ويهلك الحرث أي الزرع وما يقتات عليه الناس، وما تناسل من الحيوان والإنسان، ويهلك أموال الناس كما حصل في لبنان..
(والله لا يحب الفساد) بأي صورة كان، ومن أي صنف كان، ولأي غاية كانت، والغاية لا تبرر الوسيلة..
ثم أخبر الله عزّ وجلّ عن هذا المفسد أنه إذا نُصح بترك الفساد في الأرض تكبّر ولم يقبل النصيحة من أحد، وربما يرى أنه ليس بمفسد في الأرض، غرّه شيطانه ووصل من حد فساده إلى أن يرى نفسه مصلحاً، ويدعي الإصلاح :(وإذا قيل له اتق الله..) ودعْ الفساد في الأرض لم يقبل النصيحة، وأخذته العزّة بالإثم ولم ينقطع عن فساده (فحسبه جهنم ولبئس المهاد) تكفيه جهنم مهاداً وفراشاً، ومأوى يأوي إليه وعذاباً له..
نسأل الله تعالى أن يعيننا على تغيير ما بأنفسنا ليتغيّر حالنا هذا إلى أحسن حال، وأن يفرج عنا ما نحن فيه، ويخلصنا من الفاسدين والفاشلين والصامتين، ويهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يلطف بالعباد والبلاد... وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتبع