بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 حزيران 2023 12:00ص مفتي بعلبك - الهرمل في حوار لـ "اللواء الإسلامي": رحلة الحج ترياق ناجع لمن أتعبتهم الحياة ومعاناتها

مفتي بعلبك - الهرمل الشيخ بكر الرفاعي مفتي بعلبك - الهرمل الشيخ بكر الرفاعي
حجم الخط
أكد مفتي عكار الشيخ زيد بكار زكريا أن رحلة الحج هي رحلة العلاج الفعّال من كل هموم الحياة التي نعاني منها في مختلف المجالات، مشيرا إلى إنها لوحة إنسانية واقعية لا نظير لها، لا تقوم على الاختصاص الإثني أو العرقي بل هي تتشكّل على هذا النحو دون أن تمسّ بالتنوّع القائم أساساً بين البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم الذي هو من آيات الله في خلقه.
وقال في حوار مع «اللواء الإسلامي» أن الحجّ المبرور إيذانٌ ببداية جديدة للحياة بعد أن يتخفّف المُحرِم من أدران الدنيا ويعود إلى دياره كما ولدته أمّه مغفوراً له بإذن ربِّه، فعلى كل حاج أن يدرك هذه النعم وألا يجعل سفره أشبه برحلة سياحية..
وفيما يلي نص الحوار:

رحلة عظيمة

{ بداية ما هي دعوتكم لكل من كتب الله له زيارة البيت الحرام هذا العام؟
- أقول.. أيها الطائفون حول البيت الحرام سلاما... هذا البيت الذي هَوتْ إليه القلوب، وطافت حوله أفئدة حملتها جسوم، وعرجت في محرابه المقدّس الأرواح، فجرت كلمة الحق على الألسن صارخة: لبّيك اللهم لبّيك.
إنها مهما تنوّعت الرّحلات واختلفت؛ فإن أعظم رحلة يقوم بها إنسان هي تلك الرحلة التي تسبق مشاعرُه فيها جوارحه، وترنو إليه روحه سابقة جسده، ويهيم بها فؤاده قبل الشروع فيها، إنهم قاصدو البيت العتيق لأداء الركن الخامس في الإسلام، تجربة بمثابة الترياق الناجع لمن أتعبهم البحث عن ماء المعنى في صحراء الكَبَد.
هنالك حيث جاء ابراهيم عليه السلام بهاجر وبابنها الرضيع ووضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم!!.. أين تذهب وتتركنا؟؟!! تقولها مرارا، وحالها يتمتم؛ أهنا يا خليل الله يترك الخليل خليله، في هذه الصحراء المقفرة، والليالي الليلاء الموحشة حيث لا أنيس ولا جليس، وإبراهيم يمضي دون أن يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا، فانطلق الخليل حيث لا يرونه ثم جثا ودعا وتبتّل وقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
ثم غدت خطوات الأُمّ خطوات للأُمَّة، سعت سعي الإنسان المجهود الخائف المتلهف الوحيد، فسعينا بعدها سعي الثابتين، فما كانت تدري أمُّنا أن هذه الخطوات وذلك اليقين الثابت سيفجّر بحول الله الماء الطاهر المبارك، وأن تلك الخطوات سيتردد حثيثها على مرِّ الزمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

لا يشغلنكم شيء عن الإستئناس بالله وعبادته

{ وكيف يستثمر الحاج وقته في أفضل ما يكون؟
- أيها المتكبدون مشقة السير قلبا وجسدا، حبستنا عن مرافقتكم خرائط الجغرافيا وجداول الإقتصاد، ولكنا متصلون بقلوبنا دوما بتلك الدوحة المعطاء، حيث يرقد سيد الخلق عليه أفضل السلام، فإنكم يا حجاج بيت الله الحرام تتعرضون اليوم لفيوضات الرحمة والنفحات، فلا يشغلنكم شيء عن الإستئناس بالله وعبادته وتأدية مناسك الحج على أتم هيئة ترضي الله ورسوله، ولسنا نسرد اليوم الفرائض والواجبات والسنن والمستحبات والمكروهات والمحرّمات والمبطلات وغيرها من الأحكام المتعلقة بهذا الركن الركين، ولسنا نقول لكم ما ينبغي فعله لسلامتكم الصحية والجسدية، وكل ما نستطيعه بعد قولنا ليس المسؤول بأحوج من السائل هو أن اتقوا الله تعالى حق تقاته، وإن كان للإنسان من موسم في العمر لتحصيل القدر الأكبر من القربات والطاعات والرحمات فها هنا موسمكم، فالله الله في كل لحظة فلا يعلم أحد أجله، أقريب أم بعيد، أعطِ لنفسك أويقات من الأمل الهادئ، والتفكير الدقيق، والتوبة النصوح.
يا حجاج البيت العتيق إن أحدكم يعطي غير قليل من وقته، ويضحّي بماله الذي ينفقه وماله الذي يفوته كسبه، ويكابد ببدنه أخلصوا وكافة حواسه، أفلا يدعو ذلك لإخلاص النيّة وتصحيح العمل فلا يضيّع الوقت وكل ذلك التعب هباء منثورا.
قال عليه الصلاة والسلام: من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، فطوبى لمن كان حجه مبروراً فلم يرفث ولم يفسق ولم يجادل إلا بالتي هي أحسن واستبق إلى الخيرات، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].

الحج رحلة المساواة

وقال مخاطبا الطائفين حول البيت الحرام: لا تلحظوا تبايُناتٍ ولا تمايزاتٍ مفتعلة في مشهد الحج، فالإحرام يجرِّد البشر من مقوِّمات التفاوت التي يتّخذونها في المسلك والملبس والهيئة والتعطّر، فيتماثلون في المشهد ويتساوون في آصرة أخوية. إجعلوها لوحة إنسانية واقعية لا نظير لها، لا تقوم على الاختصاص الإثني، وتتشكّل على هذا النحو دون أن تمسّ بالتنوّع القائم أساساً بين البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم الذي هو من آيات الله في خلقه. يُخرِج الحجّ للبشرية، وليس للمسلمين وحدهم، إصنعوه مشهداً يَسُرّ الناظرين، تتواءم فيه قيمة المساواة ووحدة الحال، مع ثراءِ التنوّع الإنساني في أجلى صوره.
لا يفوتكم أن الحجّ المبرور إيذانٌ ببداية جديدة للحياة بعد أن يتخفّف المُحرِم من أدران الدنيا ويعود إلى دياره كما ولدته أمّه مغفوراً له بإذن ربِّه. ومن شواهد البداية الجديدة التي تتيحها هذه التجربة حلقُ الشّعر أو تقصيرُه في نهاية الإحرام تعبيراً عن التخلُّص ممّا كان؛ وكي يَنْبُت الشعرُ مع استئناف الدورة الجديدة التي يُرجى فيه الصلاح والاستقامة. ومَن لم يستطيعوا الحجّ أو لم يدركوه فإنّهم في حجّ رمزي مع كلِّ صلاة تُقام، فهم في الأذان والإقامة والتكبير على حالٍ يُشبِه التلبية، وفي قبلتهم يتوجّهون نحو المسجد الحرام ليتشكّل اصطفافٌ موضعيّ في كل رقعة يُجتمَع فيها للصلاة مع انتظامٍ كوكبيّ يُلحَظ بمنظور أوسع. وإن كانت مكة المكرمة هي القِبلة؛ فإنّ المصلين، كما الحجيج، يوجِّهون وجوههم وأفئدتهم، بهذا الاجتماع الفريد والانتظام الآخّاذ؛ للذي فطر السماوات والأرض، فالقِبلة ليست معبوداً، وما التزامها إلّا امتثالٌ لأمره سبحانه تعالى الذي له الرّكوع وله السجود وله الحمد وله الشكر.
واختتم بالقول: أيها المستأنسون بالله ورسوله سلّموا لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا تنسونا وتنسوا إخوانكم في فلسطين الأبيّة والأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام وقبلتنا في السياسة من صالح دعائكم وصادق تضرّعكم.