بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 كانون الثاني 2018 12:05ص من تاريخ القضاء الشرعي في بيروت (1)

هنري الثامن يرسل لجنة إلى تركيا لدرس القضاء العثماني وصولاً إلى إصلاح النظام القضائي الإنكليزي

حجم الخط
وضع حيدر بامات سنة 1946 كتابا بعنوان «مجالي الاسلام» ترجمه عادل زعيتر سنة 1956 ومما جاء فيه «ويكفينا للحكم في مدى التقدير الذي كان يساور المعاصرين حول النظم العثمانية ان نذكر ان هنري الثامن ملك انكلترة ارسل الى تركيا لجنة لدرس القضاء العثماني وصولا الى اصلاح النظام القضائي الانكليزي». 
وكانت المحكمة الشرعية هي المحكمة العادية التي تنظر في قضايا الاحوال الشخصية والدعاوى المالية والعقارية والبيوعات والتأمينات والقضايا الجنائية ومع الزمن حدت صلاحياتها بقضايا الاحوال الشخصية كالطلاق والفريق والنفقة والمهر والحجر.
 وقد بقيت في القوانين الوضعية رواسب من الاختصاص الاصلي العادي للمحكمة الشرعية منها الاستمرار باستعمال مصطلح «الشرعي» حتى اليوم منها ان وزارة العدل تضع قيان وزارة العدل بوضع جدول بأسماء الأطباء الشرعيين وان نظام الجمارك يحيل النزاع بين الادارة والتاجر الى لجنة من قاض وخبيرين شرعيين يحدد المجلس الاعلى للجمارك شروط تعيين هؤلاء الخبراء علما بان التعامل القضائي لا يزال يستعمل عبارة بدون مسوغ شرعي. 
ويلاحظ ان الاحكام الشرعية تخلو من كلمة «حيث» التي كثيراً ما ترد في قرارات القضاء المدني بما يعرف بالحيثيات. ونعتقد أن استعمالها في هذا القضاء الأخير هو في غير محله اللغوي. ففي لسان العرب «حيث»  هي ظرف مبهم من الأمكنة،  فهي كلمة تدل على المكان. فحيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة. قال الأصمعي: مما  تخطىء فيه العامة والخاصة باب حين وحيث.
تطور القضاء في الدول الإسلامية
إن القضاء أعلى مقام استطاع البشر الإرتقاء إليه، وارفعوا القضاء إن شئتم في تاريخ الناس، تروه انحدر الى درك البهائم، حيث يأكل القوي الضعيف، ويظلم الكبير الصغير، ويطغى الغني على الفقير، ولكن القضاء يحقق معنى الإنسانية في الحياة، حيث لا يطغى فيها أحد على أحد وتصان فيها الحيوات والحريات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد ولا يكون ذلك كله إلا بالقضاء. ثم إن القضاء عند المسلمين أقوى وجوه الإيمان، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرضين، وصف الله به نفسه إذ قال {فالله يحكم بينهم} (البقرة 113) و{ان ربك يقضي بينهم} (يونس 93).
والقضاء أول ما تفخر به الأمة إذا عدّت أمجادها ومفاخرها، وإذا أردنا الاستدلال بفرد واحد على أخلاق أمة وطبائعها، لم يكن غير القاضي العالم العادل أدلّ على مكارم شعبه ونبل أهله. وإذا كان بين شعوب الأرض اليوم من يفخر باستقلال قضائه واستعلائه على الظلمة الفاسدين المفسدين، فإن تاريخ القضاء الشرعي في بيروت مفخرة لأهل بيروت لما كان فيه من الاستقلال والترفع والنزاهة والعلم.
كان القاضي قبل الإسلام حكماً. وكان لكل قبيلة حكم يفصل في فيما يعرض عليه من منازعات. ذكر من هؤلاء الحكام قس بن ساعدة الإيادي واكثم بن صيفي التميمي وعمر بن الخطاب العدوي وعامر بن الظرب والحاجب  بن زرارة وتذكر أخبار عديدة تولي شيخ القبيلة دور الحكم بين افراد قبيلته استناداً الى الأعراف والتجارب والفراسة والإستدلال. وأشهر محكمة في الجاهلية منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن الأحوص على أي أحق بالرئاسة وكان الأعشى حكماً بينهما، قال في قصيدة طويلة:
حكّمتوه فقضى بينكمأبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمهولا يبالي غبن الخاسر 
والنبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو أول من قام بوظيفة القاضي في الإسلام . وسار الخليفة ابو بكر على طريقته. ولما انتشر الإسلام واتسعت دار الإسلام في عهد الخليفـة عمر بن الخطاب فصل القضاء عن الولاية وعين للقضاء اشخاصاً غير الولاة فاصلاً بذلك بين السلطتين التنفيذية والقضائية وسار الخليفتان عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه على هذا السبيل. واستمر الأمر في الدولة الأموية على ما كان عليه الحال في عهد الخلفاء الا انه تميز بمعاملة تدوين الأحكام في سجل خاص. واختلف الأمر في الدولة العباسية فقد نشأت المذاهب الأربعة ووظيفة قاضي القضاة وانتشر الجدل الفقهي واختلفت احكام القضاة باختلاف المذاهب وازداد تدخل الخلفاء في أحكام القضاة مما دعا الفقهاء الى الزهد في منصب القضاء والتمنع من قبوله كما حصل مع الإمام ابي حنيفة النعمان وتلميذه زفر ومع الإمام احمد بن حنبل.
تاريخ القضاء الشرعي في بيروت
ان تاريخ القضاء الشرعي في حقيقته ليس تاريخ الملوك والسلاطين والأمراء الذين حكموا البلاد، أو تولّوا أمور الناس، ولا هو تاريخ الحروب وإحصاء قتلاها ووصف وقائعها، وإنما التاريخ هو تأريخ الحياة التي عاشها الشعب بجوانبها كافة، وقدم فيها للأجيال الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة.
وقد نظرت فوجدت في القضاء الشرعي في بيروت كثيراً من الوقائع التي تدل على مقدار ما كان أجدادنا عليه من سموّ الأخلاق ونبل المقاصد وسماحة الأنفس، وذلك جليّ ظاهر في فتاواهم وأحكامهم، فضلاً عما تجده في تلك الفتاوى والأحكام من الوقائع اليومية لأهل بيروت وطرق حياتهم وأساليب معاملاتهم، واتصال علاقاتهم بين مسلمين ومسيحيين على السواء، لا يمتاز بعضهم عن الآخر إلا بالعمل الحسن، في ظل قضاة يفخر بهم تاريخ القضاء ، لما امتازوا به من العلم والمعرفة والفقه والدراية.
والصحيح أن تاريخ أهل بيروت ليس تاريخ ملائكة مطهرين، أو أنبياء معصوميـن لا خطايا فيه ولا أخطاء، إنما هو تاريخ بشر يصيبون ويخطئون شأنهم شأن البشر،  صفحتهم بيضاء وإن جاء فيها نقط سوداء. وقد ظلت الشريعة مصدراً للتشريع ومصدراً للقضاء والفتيا، واعتبار الناس لها مرجعاً لهم في معاملاتهم وسلوكهم، وذلك قبل إقرار التشريعات المدنية. والفرد مهما كانت فرادته  أو تميزه بملكات غير مألوفة، فإنه لا بد أن يتأثر بالنسق الاجتماعي السائد في مجتمعه، وبالمقابل فإنه لا بد أن يتأثر بالمجموع، فالعلاقة بينهما علاقة تبادل وتكامل.
كانت أصول المحاكمات لدى القضاء الشرعي، ولا تزال، بسيطة وسهلة، والعدالة فيه ليست بطيئة ولا مكلفة. فكثير من الدعاوى الشرعية لا يفرض فيها تمثيل المتقاضي بمحام.  ومن الإجراءات السهلة في المحاكم الشرعية تنظيم التوكيل في قلم المحكمة لقاء رسوم غير مرتفعة، إضافية الى أن مدة الفصل في الدعاوى ليست طويلة  فضلاً عن أن القاضي الشرعي غير خاضع للسلطة التنفيذية المدنية بل يستمد في أحكامه إلى الأحكام الشرعية.
وكان القاضي يُختار قديماً من قبل الحاكم الاقطاعي ثم صار يعين من قبل الوالي وأخيرا يعين من الاستانة وكان العلماء يتورعون عن تولي مهمة القضاء لما كانوا يدركون من ظلم الحكام  وتعسفهم وعدم التزامهم بتنفيذ احكام القضاة. وكانت بيروت  بين سنتي 1769 – 1780م  في عهدة الأمير يوسف الشهابي فاستدعى الشيخ أحمد البربير وطلب منه تولي القضاء ولكن البربير تردد واعتذر وبعد إصرار الأمير نزل البربير عند رغبته مشترطا عليه شروطا متى اخل بها لم يعد  للأمير سبيل عليه في البقاء في منصبه. ومما شرطه البربير على الامير  تنفيذ أحكامه وعدم التدخل في قضائه وتكليف مندوب الأمير لتحصيل الرسوم القضائية تفادياً مما كان يفعله الولاة عند عزل القضاة  من تعسف في محاسبتهم. 
وممن تولى قضاء بيروت بعد البربير الشيخ أحمد الأغر والشيخ يونس البزري الصيداوي والشيخ عبد الغني الغزي الدمشقي والشيخ عبد الهادي قرنفل البيروتي. وبعد إخراج جيش ابراهيم باشا من بيروت ادركت الدولة العثمانية اهمية المدينة بموقعها ومينائها  فعمدت الى اعادة تنظيم ادارتها فأنشأت الثكنة العسكرية – القشلة الهمايونية – ووضعت فيها حامية عسكرية كما عمدت الى تنظيم القضاء الشرعي فعينت الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي قاضيا شرعيا  وقد افتتح القاضي المذكور اول سجل شرعي في الثالث عشر من شهر صفر الخير سنة 1259هـ/ 1843م. 

* محامٍ ومؤرخ