بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 آذار 2023 12:40ص هل يتعالى الجميع على الجراح؟

حجم الخط
ألِفَ الناس حسن استقبال رمضان ببهجة ومسرّة، وفرح وحبور..
وألفوا الخير والتواصل والإحسان الى بعضهم ومجتمعهم وجمعياتهم، والى المعوزين منهم، وهذا لون من اصالة الجميع.. وسمة اساسية للمؤمنين الذين يرجُون عفو الله ورضوانه..
ورمضان هذا الشهر الكريم المبارك فيه من نفحات الايمان، وتجليات الرحمة والمغفرة ما يدفع الجميع للعودة الى الذات وتلبية نداء الفطرة والشعور بالآخرين..
فهو شهر تفتّح فيه أبواب الجنان..
وتغلق فيه ابواب النيران..
وتُصفَّد فيه الشياطين وتُغل..
وينادى منادٍ أيا باغي الخير أقبل
ويا باغي الشر أقصر..
وهو شهر يُزاد فيه رزق المؤمن.. من فطَّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه..وعتقاً لرقبته من النار.. وعندما قالوا يا رسول الله ما كلنا يجدُ ما يفطِّر الصائم عليه.. قال صلوات الله وسلامه عليه يعطي الله هذا الثواب من فطَّر صائماً على تمرة.. او شربة ماء.. او مذقة لبن..
ولا يخفى ما لهذا من دلالة الترغيب بفعل الخير مهما قل او كثر.. فهو مفتاح التواصل والتراحم، والشعور بالآخرين، وهو سبيل تحقيق بعض معاني الاخوة التي هي نواة وحدة المجتمع.
ولافت جداً مدى التنافس والتسابق عند الصائمين، والمؤمنين للقيام بهذه الواجبات الدينية والانسانية، وتحقيق هذه المعاني وهذه القيم.. قيم العطاء.. وقيم الانفاق.. وكفالة الايتام.. وموائد الرحمن.. ما امتع هذه المعاني، وما اجلّ قدرها.. وأسمى أثرها.. وما أرجى ثوابها وأجرها عند الله تعالى.. فضلاً عما يشعر به المعطي.. والمنفق من طمأنينة النفس وراحة البال.
غير ان معنى آخر يحمله الينا شهر الصيام من حيث كونه جُنَّة اي وقاية من النار ومن غضب الله تعالى، ففي الحديث النبوي.. (الصومُ جُنَّة) لأن الصائم الذي امسك عن الطعام والشراب وامسك نفسه وامتنع عن تلبية غرائزه يكون بذلك قد تجرد الى ربه الذي امره وكلفه.. وادرك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن سابّه أحد او شاتمه فليقل إني صائم إني صائم) فهو قد ارتقى في معارج الطهر وتزكية النفس وشغلهُ رضوان الله تعالى وعفوه عن نفسه وذاته وما اصابه فتملكَّته رباطة الجأش وألف أدبيات جديدة، تترجم صفاء سريرته، ونقاء فطرته، وسلامة صدره.. وادرك ان رمضان والصيام ليسا مجرد امتناع عن الطعام والشراب فحسب.. وإنما تربية.. وإعداد نفس وتقوية ارادة.. ورباطة جأش... وصبر على المكاره.. فالزور مثلاً قوله وفعله اصبح من الماضي.. والدفاع عن النفس يتلاشى امام الطمع بعفو الله ورضاه.. واضعاً نصب عينيه قول الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «من لم يدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامه وشرابه»..
ومن هنا كان رمضان شهر التواصل مع الآخرين فضلاً عن صلة الأرحام.. وشهر التسامح والتسامي عن القيل والقال.. والغيبة والنميمة.. وشهر الصبر ورباطة الجأش، وتماسك النفس عن ردات الفعل فضلاً عن سوء الفعل وقبحه..
ورمضان شهر الترفُّع والتعالي حتى عن رد الإساءات ولو كان محقاً.. وذلك لن يكون صعباً ولا مستحيلاً.. فمن ذاق طعم الايمان- وصفت نفسه وسريرته وادرك عظم الاجر والثواب لم يكن ليلتفت الى الوراء ولا الى الجراح، وذلكم هو أثر العبادات والصوم على وجه الخصوص.. لأن الصائم إنما يصومُ لله رب العالمين يرجو رحمته ويخشى عذابه.
وفي الحديث القدسي في ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (الصومُ لي وأنا أجزي به).. نعم الصوم مدرسة جامعة.. وعبارة فاعلة ومؤثرة لأن الصوم هو الامساك عن الطعام والشراب، وعن الشهوات وتلبية الغرائز وهو صيام الجوارح وغض البصر بل وهو صيام النفس عما يختلجها من وساوس وميول، وهو صوم النوايا عن كل ما يجرح صفاءها وروحانيتها..
لكل ما تقدم ذكره وأكثر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت امتي ما في رمضان لتمنت ان يكون الدهر كله).
وهكذا فلسفة العبادة في الاسلام يتعدى خيرها صاحبها ليتناول المجتمع ومؤسساته، وافراده، وقيمه ومعالمه.. وليعم الخير القريب والبعيد والصديق وغيره.. وليكون الدين بذلك صيام أمان المجتمع والحياة أبعد مدى من المذهبية الضيقة، والطائفية والدوائر الضيقة..
إن الدين رسالة الله الى العالمين.. ورحمة الله للعالمين رحمة لا تقف عند حدود الزمان.. والمكان.. والإنسان.. فالخلق كلهم عيال الله واحبهم الى الله انفعهم لعياله..
وخيرُ الناس أنفعهم للناس..
وعندما قال الاعرابي اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.. قال له صلوات الله وسلامه عليه.. ضيَّقت واسعاً يا أخ العرب»..
فهل يدرك الناس سعة رحمة الله تعالى القائل: (وسعت رحمتي كل شيء)..
وهل يدرك الناس ان رحمة الله غلبت غضبه،وهل يتعالى المؤمنون على الجراح ويتملكهم العفو والتسامح (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو)..
رمضانُ فرصةُ العمر للتواصل.. والتفاهم.. والتلاقي ولإشاعة المحبة والرحمة بين الناس..
فهل يصيب اللبنانيين عبقها.. وخيرها.. ورحمتها وتجلياتها.. ويلتقون على كلمة سواء..
وهل ينعم اللبنانيون بالأمن والسكينة وراحة البال، وهل تعودُ إليهم الكلمةُ الطيبة؟
وهل يعودوا الى ادبياتهم ووحدتهم الوطنية.. وهل يتعالى الجميع على الجراح.

* مفتي طرابلس والشمال سابقاً.