بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الأول 2017 12:05ص وقف والي بيروت نصوحي بك سنة 1895: أرض لطلبة العلوم الدينية نفذها المفتي محمد توفيق خالد سنة 1950

حجم الخط
 ينبغي أن نلقي الضوء على ما كانت عليه حال المدارس والتعليم في بيروت في القرن التاســـع عشر. فلم يكن فيها سوى بعض كتاتيب مخصصة للبنين. وكان الكتّاب عبارة عن حجرة صغيرة في دار الشيخ (او الشيخة) ملحقة بالمسجد  يزدحم فيها الأحداث من الضحى إلى العصر يجلسون على الحصر متربعين يكتبون فروضهم على ألواح حجرية سوداء، يقرأون جزءاً من القرآن الكريم أو يرتلونه بصوت واحد  هازّين رؤوسهم وأجسامهم إلى الأمام وإلى الخلف ظناً أن هذه الحركة تساعد على الحفظ. ويتلقّون بعض قواعد الحساب البسيط للحاجة إليها في مواقيت الصلاة والمعاملات. وكان بعض أصحاب الكتاتيب من البصـــراء، كالشيخ إسماعيل الحافظ والشيخ محمد القباني المصري. وكانت الكتاتيب الصلة الوحيدة تقريباً بعالم الحرف والكلمة، وقد تخرّج منها أعلام من سلفنا الصالح وكان لها الأثر الكبير في الحفاظ على القرآن الكريم وعلى لغة.
ذكرت  صحيفة حديقة الأخبار سنة 1867م  «انه ليس عند أهل الإسلام في مدينة بيروت مدرسة متقنة للتعليم... وكثيرون من أولادهم في بيروت يتعلمون في مكاتب النصارى... ومع اننا نرى بوضع أولادهم  بمكاتب المسيحيين دليلاً على توطيد الالفة الأهلية ... لا نتغاضى عن ان نقول ان الأليق ان ينشئوا مكاتب مخصوصة لأولادهم مثل بقية الطوائف». 
 وكان مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري قد القى طيلة شهر رمضان 1291هـ /1874 م مجالس وعظ وتفسير في الجامع العمري الكبير. قال في المجلس الثامن «الحذر ثم الحذر مما اعتاده جهلة الناس في هذا الزمان وهو أنهم يخرجون أولادهم من المكاتب التي يتعلمون فيها القرآن الكريم قبل إتقانهم تعلمهم وتجويدهم للقرآن  وقبل تعليمهم عقائد الدين وأحكام العبادات.  فيذهبون بهم الى مكاتب الأجانب عن الدين والوطن لتعليم الحساب والهندسة وبعض اللغات وخلافها من العلوم. وهذا رضاع ثالث بعد رضاع المؤدب وقد قيل الرضاع يغيّر الطباع. وهذا أمر شنيع وفعل قبيح من أقبح الأفعال لأن الولد لم تحصل له قوة الإيمان بعد ، ولم  يقرأ العلم الواجب عليه ولا يعرف شيئاً  مما يجب عليه معرفته ولا سمع أقوال العلماء فربما تسبق اليه الدسائس من ذلك المعلم الذي يعلمه أو من الجماعة الذين عنده صغاراً كانوا أو كباراً... والصبي في هذه السن قابل لكـــــل ما يلقى اليه مثَلُه مثل الشمع أيُ شيء عملت عليه طبع فيه ... فانظر كيف فسد الزمان وأهله وصاروا لا يبالون بالضرر في الدين الذي هو رأسمال كــــل مسلم:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّعُ
أولى مؤسسو جمعية  المقاصد جلّ اهتمامهم لنشر الوعي بين المسلمين وتعليمهم أصول الدين والعبادات فكان التعليم الديني جزءاً  أساسياً في مناهج التدريس. وكان من شروط مدارس الذكور تخصيص أحد المعلمين لتعليم القرآن الشريف والعبادات. وتجلى حرصها  بوجود جامع بالقرب من المدارس التي تؤسسها. 
 وكانت للشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد اليد البيضاء في نشرِ العلم والتفقه في الدين فقد شوّقا الوجهاء والأغنياء إلى تعليم أبنائهم العلم للدين والدنيـا . ويذكر أن أحد أبناء العيال أخبر الشيخ عبد الله خالد  بما يجده أبناء المسلمين في بعض المدارس ، فدخل مع عيون العلماء على والي الإيالة ولفتوا نظره الى هذا الأمر وكانت نتيجة المقابلة ان عيّن الشيوخ عبد الباسط فاخوري وعبد الرحمن الحوت وعمر الأنسي وعمر خالد  لتعليم  الصرف والنحوِ والفقهِ والتوحيد في جامع الأمير منذر المعروف بجامع النوفـرة ( لوجود نافورة في فسحته الشرقية)  او الجامع المعلّق ( لارتفاعه عن الأرض فكان يصعد إليه بعدة درجات نحو بابه الشرقي وذلك قبل فتح بابه الغربي إثر شق شارع  فخر الدين -  شارع المصارف). فاجتمع لدى الشيوخ المشار اليهم مائة تلميذ. 
الحاجة الملحة لكلية للعلوم الدينية
تقرر سنة 1879م بهمة مدحت باشا وسعي وئيس البلدية فخري بك ومتصرف بيروت رائف أفندي إنشاء المرسى (ميناء بيروت) وتوسيعه وسلمت  التعليمات بشأنه الى الكونت دي برتوي De Perthuis على أن يأخذ النفقات من الشركة التي ستنفذ  العمل. الا  أن نقل مدحت باشا من ولاية سورية ثم ما تبع ذلك من إتهامه بالإشتراك باغتيال السلطان عبد العزيز ومحاكمته ونفيه للطائف جعلت المشروع ينام في أدراج قصر يلدز.
وفي سنة 1893 باشرت الشركة الفرنسية عملها فعلاً فاتخذت كلّ ما كانت تراه مناسباً لمصالحها مما أدى الى تذكر الأهالي واعتراضهم على بعض أشغالها فقد بعثت الشركة عمالها في نيسان 1894 لجرف قسم من جبانة الخارجة – خلف الريفولي – من جهتها الشمالية فاتصل خبر هذا الاعتداء بمفتي المدينة في حينه الشيخ عبد الباسط فاخوري واعلم  الوالي نصوحي بك بذلك فأصدر قراراً بتأليف لجنة من المفتي (رئيس شعبة المعارف الأهلية التي حلت محل المقاصد) والحاج إبراهيم أفندي الطيارة – من أعضاء المجلــــــس البلــــــــدي – والحاج عبد اللطيف أفندي حمادة محاسب جي الأوقاف – ومهندس الولاية ومهندس البلدية  للنظر بعمل الشركة وبعد الكشف أصدر الوالي أمره بمنع التعدي المشار إليه. وبعد المشاورات مع الوالي ولفت نظره الى حاجة المدينة لكلية لعلوم الدين وتمنع  التجار البيارتة عن انشاء كلية للعلوم الدينية  اشترى الوالي قطعة ارض من المساحات التي نشأت عن توسيع المرفأ ووقفها في سنة 1895م  على طلبة العلوم الدينية بموجب وثيقة شرعية سجلت في محكمة بيروت الشرعية في 9 ذي القعدة سنة 1312هـ/ 1895م  موقعة من الوالي نصوحي ومن مفتي بيروت عبد الباسط ومن  دو برتوي رئيس شركة المرفأ  وعرف بوقف العلماء. 
نص وقف نصوحي بك على طلبة العلوم الدينية المعروف بوقف العلماء
« في مجلس الشرع الشريف المعقود في الصالون المختص بقعود  عطوفتلو نصوحي بك أفندي ابن خير الله أفندي ابن عبد الحق أفندي والي بيروت الأفخم حضر حضرة نصوحي بك المشار إليه وقرر طائعاً مختاراً بمواجهة فضيلتلو الشيخ عبد الباسط أفندي ابن الشيخ علي الفاخوري مفتي بيروت حالاً الناظر على الوقف الآتي لآجل تسجيله وإتمام أمره والحكم بصحته إني قد وقفت وحبست ما هو جار بملكي وتصرفي ومتصل الي بالشراء الشرعي من القونت أدمون دي برتوي الفرنساوي رئيس إدارة البورت (المرفأ –(port  بمدينة بيروت وذلك الموقوف والمحبوس جميع قطعة الأرض الكائنة  داخل مدينة بيروت التي مساحتها تربيعاً ثمانماية وخمسة وسبعون متراً البالغة ألفاً وخمسمائة وخمسة وخمسين ذراعاً حساباً عن كل ذراع خمسة وسبعون سنتمتراً يحدها  قبلة مقبرة الإسلام المعروفة بالخارجة وشمالاً الطريق السالك المأخوذ من البورت وشرقاً وغرباً أرض البورت المذكور تتمة الحدود وقفاً شرعياً وحبساً مؤبداً مرعياً على طلبة العلوم الدينية الشرعية كعلم التفسير والحديث والفقه والأصول والفروع وما يكون آلة ووسيلة لتحصيلها كالعلوم العربية وعلى المدرس الذي يعلم الطلبة المذكورين تلك العلوم في مدينة بيروت وقد شرطت بوقفي المحرر شروط منها ان يصرف ثلث ريعه على المدرس والثلث الثاني على الطلبة والثلث الباقي يعطى خمساه الى المتولي وخمساه الى لوازم صبيان المكاتب الإسلامية وخمسه الخامس الى مفروشات وفراش محل الطلبة المذكورين وحارس المقبرة المذكورة . ومنها أن ينتخب المدرس المذكور في دار الخلافة عند المميزين الحاذقين في تلك العلوم أو ينتخب عند العلماء المحققين لجامع الأزهر في مصر المحمية ومنها أن يكون التولية عليه لمفتي أفندي الموما اليه مدة حياته ومن بعده لمن يكون مفتياً في بيروت وأن يكون النظر عليه لمن يكون حاكماً شرعياً بمدينة بيروت أيضاً وقد سلمت الوقف المحرر للناظر الموما اليه وهو أقرّ بتسلمه منه تسلم مثله شرعاً بعد ذلك قد عنّ للواقف المشار إليه الرجوع عن وقفه المحرر بقوله أنه غير صحيح وغير لازم عند من لا يرى الصحة واللزوم فعارضه الناظر الموما اليه بصحته لزومه عند من يرى الصحة واللزوم بمجرد قوله وقفت وترافعا وتخاصما بذلك  فحينئذ حكمت بصحة الوقف المحرر ولزومه في خصوصه وعمومه ومنعت الواقف المشار اليه من دعواه الرجوع حكماً ومنعاً صحيحين شرعيين ثم حضر القونت ادمون دي برتوي المذكور وصادق بطوعه واختياره على جميع ما قرره الواقف المشار اليه مصادقة صحيحة شرعية بصريح قوله انه وقف شرعي وقع من أهله مضافاً لمحله وبالطلب تحرر ما هو الواقع 9 ذي العقدة سنة 1312 . التواقيع ادمون دي برتوي   عبد الباسط  نصوحي». 
انشاء الكلية الشرعية بهمة المفتي محمد توفيق خالد سنة 1950/1951
لم يتيسر بناء الكلية في عهد المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وبعد وفاته سنة 1905 وشغور  مركز الإفتاء حتى سنة 1909 لعدم اتفاق البيارتة على مفت جديد، ولما كانت التولية على الوقف مشروطة لمن يكون مفتياً في بيروت فقرر القاضي الشرعي في 19 ذي الحجة 1324 هـ /1907م  إقامة الشيخ عبد الرحمن الحوت قائمقام نقيب الأشراف وعبد القادر الدنا رئيس البلدية والشيخ رشيد الفاخوري محرر المقاولات (الكاتب العدل)  للقيام مقام المتولي على الوقف الى أن يصير تعيين مفت لبيروت.
وعند انتخاب الشيخ مصطفى نجا مفتياً وأثناء توليه الوقف استكملت بلدية بيروت قسماً من أرض الوقف وسلّمت قيمة الأرض الى الشيخ مصطفى نجا في 3 صفر 1349 هـ /1930م  ووزع ريع القسم المؤجر للبلدية وريع بقية أرض الوقف البالغة مساحتها 563 ذراعاً وفقاً لشروط الواقف . وبعد وفاة المفتي الشيخ مصطفى نجا سنة 1932 انتخب الشيخ محمد توفيق خالد مفتياً بلقب المفتي الأكبر (وكان سلفه قد رفض هذا اللقب) قام أمين صندوق وقف العلماء حسن قرنفل بتسليم أموال الوقف الى الشيخ محمد توفيق خالد ومجموعها 4250،89 ليرة ذهبية عثمانية. فقام فيها الشيخ محمد توفيق خالد سنة 1950 /1951 ببناء المقر الرئيسي للمسلمين في دار الفتوى شارع ابن رشد الزيدانية والذي يضم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وأزهر لبنان وثبّتت على مدخله لوحة نصها  «ذكرى الشيخين خالد والحوت» ويقصد المفتي محمد توفيق خالد بالشيخين جدّه لأبيه الشيخ عبد الله خالد  وجدّه لأمه الشيخ محمد الحوت. وكان يفضل أن يذكر في اللوحة أيضاً اسم الواقف الأول نصوحي بك الذي غيّب اسمه وأفعاله كما الغي اسم الطريق الحميدي وأصبح كليمنصو وأبقي اسم مدحت باشا على شارع  فرعي في الزيدانية  واسم الوالي عزمي بك على شارع فرعي وسط بيروت.  
وهنا يطرح التساؤل عن مآل التولية على جبانات بيروت ومنها جبانات  بيروت ومنها  الخارجة أو المصلى  بعد حلّ جمعية المقاصد التي كانت متولية عليها سنة 1881 وإلحاقها املاك الجمعية ومدارسها بنظارة المعارف  بهيئة خاصة باسم شعبة المعارف الأهلية برئاسة القاضي الشرعي عبد القادر جمال الدين . و شكّلت في سنة 1884 م هيئة جديدة لشعبة المعارف الاهلية برئاسة مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي استمرّ برئاستها حتى سنة 1905 م ومن المرجح ان الأشراف على الجبانات بعد حلّ جمعية المقاصد انتقل الى إدارة الأوقاف المحلية بنظارة القاضي الشرعي ومفتي بيروت رئيس شعبة المعارف الأهلية ، وهذا يفسرصفة المفتي لملاحقة اعتداء شركة المرفأ على جبانة الخارجة وتأليف الوالي لجنة للكشف على التعدي برئاسة المفتي وعضوية عبد اللطيف بن محمد بن عبد الفتاح آغا حمادة الذي كان أحد مؤسسي جمعية المقاصد سنة 1878م ومدير أوقاف بيروت 1884 م ومحاسب جي الأوقاف (1892م) وكان يحضر بهذه الصفة المجلس الشرعي  لامتحان المرشحين لتولي الوظائف على المساجد والزوايا والأوقاف. 
 *محامٍ ومؤرخ