بيروت - لبنان

5 كانون الثاني 2024 12:00ص آنا ماريا أنطون في روايتها: «إمرأة من ورق»: إنشاء الذات في الأدب التجريبي

حجم الخط
«أردت من هذه الرواية أن تطرح علامة إستفهام وتعجب على سؤال: «ماذا لو!» في روح وفكر كل من يقرؤها. أردت أن تعيد بعض الإحتمالات الملغاة من حسابات «الواقعيين» و«المنطقيين». أن تفتح طاقة صغيرة تتسلل منها نشوة الحلم إليهم ولو لأجزاء من الثانية...» الكتابات الأولانية كلها، إنما تنصرف في البدايات، إلى تكوين الذات وإنشائها، وهي تعتبر ذلك بمثابة مقدمات لمشروعها القادم. وليس أدل على ذلك، من أن جميع الكتب إبتدأت بمقدمات. ومن أن جميع الكتّاب، إنما شرعوا في البدايات، بمقدمات. فهي إذ ذاك بمثابة العتبات الصالحة للدخول في المواضيع المتشابكة، التي كثيرا ما تعتمل طويلا، في النفوس كما في النصوص، حتى يحين موعد الإنبثاق، حتى يحين موعد الولادة. إذا ما اعتبرنا، أن كل كتاب، هو مولود حديث الولادة، حتى يرفده الكتاب الآخر، الذي ينتظر دوره في نفس الكاتب. وذلك على ضوء التجربة الشديدة الخصوصية، التي تميّز كاتبا عن كاتب، كما كتابا عن كتاب.
في إطار مشروعية الحضور: كاتبا وكتابا، يتم التآلف عادة، بين إنشاء الذات، والأدب التجريبي، ما دامت الصياغة الأخيرة، لجميع المشروعات الأدبية و الثقافية، هي النجاحات التي يعول عليها. فمأمول النجاح، يجب أن يكون عالي المنسوب عادة، حتى تأخذ التجربة حيّزها من النجاح وحتى تأخذ الكتابة، بما هي تجربة، حظها من النجاح أيضا.
ضمن هذه الرؤيا، وضمن هذا السياق، تأتي تجربة الأديبة الواعدة: آنا ماريا أنطون، في مؤلفها الأدبي الذي يأخذ وجه الأدب الروائي مرة ووجه الأدب المسرحي، مرة أخرى، عنيت به: «إمرأة من ورق. فواصل - الحمرا. 2024».
تحدب المؤلفة الصاعدة، على إنشاء الذات، إنشاء أدبيا وثقافيا وفكريا، لا يخلو من الشاعرية، على عهدنا بأن جميع المؤلفات الأولانية، ذات نفحة شعرية. وهو مبرر إنبثاقها العاطفي والوجداني والفكري. فما لم تكن النفحة الشعرية قوية في ذات المؤلف، لما قدر على تفجير نفسه أدبا حارا، لما قدر على إحتمال هذه القوة القوية، التي تخرج من لدنه، في مشروع ومشروعية التغيير. إذ كل وجه من الوجوه الأدبية، يجب أن يحسم ريادته، بالاثبات الشعري أولا، أو بحرارة هذا الإثبات، ثم تكون المرحلة اللاحقة، في إتخاذ المجرى الأدبي: رواية ومسرحا، نثرا وشعرا. وهذا ما يظهر بوضوح في تجربة آنا ماريا أنطون الروائية.
«لم يريد الجميع أن أنسى؟ ألا تكفي قساوة الحياة؟ فكما يعاود البحر تمليس الرمال مرة تلو الأخرى حتى يمحو آثار الأقدام عليها. كذلك الحياة تظل ترهقنا حتى نصل حد الإعياء، ونتخلى عن تلك الذكريات المسروقة من زمن سعادة آخر».
أهم ما ينجلي لقارئ رواية «إمرأة من ورق»، تلك المتابعات العذبة للتفاصيل التي يهملها كتّاب الرواية عادة، عن غير إنتباه منهم لحلاوتها، عن غير إكتراث. وقد تصيّدتها الروائية، بأنسها وناسها ومأنوسها، وكذلك بتجربتها المغايرة. وهذا إذا دلّ على شيء، فإنما يدلّ على عبقرية الموهبة التي تتحمّل أعبائها. فمقاساة ذلك حقا، ليس بالأمر السهل، حين يأتي الأديب تجربته من جميع نواحيها. وهو ينظر أن يصيب الحقيقة التي يبحث عنها في مشروعه. ولهذا نجد مثل تلك التنبؤات، مثل تلك النبوءات، مثل تلك البنيانات، التي تدل على الموهبة، على عبقرية الموهبة:
«شعور بإنعدام الوزن يغمرك وأنت تتأملها وكأن مياهها تحملك وتجرفك بتيار شارد إلى أعماق لا ذاكرة لها! تراودك ثقة ما بأنها تعرف عنك كل شيء. بأنها تعرف كل شيء عن أي شيء».
فإنشاء الذات على مثل هذه الشروط القاسية، في البحث: عن الحقيقة الإجتماعية، عن الحقيقة الوطنية، عن الحقيقة الأسرية، عن الحقيقة التربوية.. إنما هو شأن خاص بالكاتبة آنا ماريا أنطون، لأنها تريد للإثبات الروائي، أن يأخذ حجمه من تجربها الحية. أن يأخذ موضعه من روايتها، وهي لا تريد له أن تسفه الريح، حين تهب عليه، ولهذا تجعل له من الركائز ما يقوّيه على مقاومة أية ريح، وخصوصا ريح النقد. لهذا نراها توليه من الإهتمام. تجعل دعاماته قوية، بمقدار ما توافيه بها موهبتها الفنية والثقافية، على ضوء مخصوص، من عبقرية الموهبة:
«الكتاب، كائنات مفتوحة على كل الإحتمالات. هم وحدهم يستطيعون أن يكونوا لا شيء وكل شيء، وأي شيء في الوقت نفسه!».
هذه اليفاعة في الكتابات الشبابية، هي ما تغيب عن كتابات جيل الشباب، فحملتها المؤلفة آنا ماريا أنطون، وحملتها هموم جيل الشباب الذي يرزح تحتها دون أن يعرف مصدر تلك الخيبات التي خيّبت آماله طوال الأجيال الماضية. فقد أحسنت الكاتبة حين وضعت إصبعها على الجروح القديمة، وأسقطت عنها تلك القشور التي تغطيها، مثلما يفعل المرء وهو يحكك جرحا، لم يندمل بعد. وهذا مما يحسب لها. فما كانت تأخذها الرهبة ولا الموجعة، بل كانت ترتشف الجعة المرة وحدها بكل كبرياء، وهي تشير إلى مواضع الخلل الإنبنائي، الذي تؤرق به الأجيال الصاعدة:
« وبعيدا عن أية تحليلات إضافية، كانت فنية المشهد الذي توشك حنين أن تدخله، كافية لإجتذاب كل ذروة في روحها».
أهم ما يتصف به عمل الكاتبة آنا ماريا أنطون الأول في «إمرأة من ورق»، إنما هو الصدقية التي تصف تجربتها. ذلك إنما تشفّ عن صفاء ذهني، وعن غور عميق، وعن سلاسة وعن إنسيابية، وعن سيولة راقية لمشاعرها الإنسانية، بلا أقنعة، وبلا حسابات موجعة. وهذا لعمري مما يحسب لها، وهي تغذ الخطى نحو كتابات مرجاة أُخر:
«شجرة البيلسان! شجرة ينطبق عليها وصفك حرفيا. تتغيّر مع الفصول، ويتميز فيها الورق والزهر والرائحة... وربما الأمر الذي يفي غناها حقه هو إعتبارها في الفلسفة رمز الولادة والموت».
مشروعية هذه الرواية، أنها تعد قارئها بالإبانة عن جميع العوار الذي ينتاب مجتمعاتنا. أنها سوف تكشف وتعرّي. وهذا يحتاج منها، إلى تجربة طويلة مع المعاناة المؤلمة:
«كل تلك الأفكار تعيد حنين مجددا إلى تلك الصدفة: أنا لست أنا. عمري ليس عمري. أهلي ليسو أهلي. وهذا ليس كوكبي!».
إلى ذلك، يمكن لهذا العمل الروائي أن يتحوّل بسهولة إلى عمل مسرحي. ولهذا نحب أن نلفت إلى قيمة ثنائية قائمة في «إمرأة من ورق»، قلّما يحسنها كتّاب الروايات المحدّثين. فهل تشهد تجربة المؤلفة الصاعدة، على ثنائية لطالما أضاعها الكتّاب ووجدتها آنا ماريا؟ وهنا يكمن سر إنشاء الذات على التجربة العميقة التي تندفع لتتحقق في النصوص، حين يكون المجتمع، كما الأدب المجتمعي والوطني، بأمسّ الحاجة إليها.
فآنا ماريا أنطون، رائدة في عملها الأولاني الواعد. وقديما قيل: «إن الرائد لا يخذل أهله!»:
«تفتح الصندوق... أوراق بيضاء فارغة... صمّاء الحروف، خرساء الكلام. وفي قعر الصندوق صدفة وحيدة، الحجم نفسه، اللون نفسه، الشكل نفسه، وذلك السر نفسه يوشوش حنين».
أخيرا، إلى كلمة الناشر الشاعر نعيم تلحوق، التي تطالعنا في أعلى الغلاف الأخير. وهي كما العنوان الذي أتى على شكل حضن، إنما يعنيان شيئا واحدا: أن الروائية الواعدة، تأخذ في إنشاء ذاتها، بذاتها، على ضوء تجربتها، ضمن التيار الأدبي الذي يعرف الأدب التجريبي، بالذاتوية المتوثبة إلى الغد. هذا ما رمى إليه الناشر، إذ رمى:
«هي فتاة من ورق، لأنها بنت الحلم... هي حبيبة الماء لأنها عاشقة الحبر... ولو إنها شاءت أن تكون حوتا فضائيا، كما ترغب أن تسمّي نفسها...».

أستاذ في الجامعة اللبنانية