بيروت - لبنان

1 آب 2023 12:00ص أورام المخ

(بريشة عبد الحليم حمود) (بريشة عبد الحليم حمود)
حجم الخط
لا أتحدث عن أورام المخ السرطانية، التي يصاب بها المرضى، ولا عن توصيفاتها ولا عن طريق علاجاتها، على يد الأطباء والمهرة من الجراحين، فلهؤلاء المرضى رحمة في قلوبنا، ودعاء ساخن على لساننا بالشفاء العاجل، من هذا المرض الخبيث، الذي أعيى الأطباء، كما أعيى الإنسان وأتعبه حتى الآن.
غير أني أريد أن أتحدث عن هؤلاء المثقفين المتعجرفين المتعالين، الذين أخذوا على حين غرّة بالورم الثقافي، فصاروا لا يستطيعون أن يحملوا رؤوسهم، تراهم يسيرون في الشوارع مثل السلاطعين برأسين، يطلّون علينا من رأس الشارع، فتحسب أن رأسهم المتورم، قد سبقهم إليك بالمنجنيق. تحاول أن تهرب من طريقهم، فلا تستطيع، خشية أن تلحظك عيونهم المقتحمة، فتصبح هدفا لهم. فتصبح في مرماهم. تورّم رأسهم، حتى صاروا لا يطيقون أن يروا أحدا قبالتهم، إلّا صبّوا عليه، ما في نفوسهم من غيظ.. إلّا أمطروه، بما في جعبتهم من أسئلة.. إلّا أنشبوا بين عينه أظافرهم، وكأنه فريسة لهم.
مثقف دعي، مثقف عيي، مثقف بهلواني، مثقف حكواتي، مثقف كلمنجي، مثقف إنتفاعي، مثقف ذيلي، مثقف، أقل ما يقال فيه: إنه من التبابعة من تبع، من التبعيين، ممن يتبعون هواهم. يميلون حيث مال بهم الهوى، بلا شروط، وبلا قيل قال. فقد سبقتهم شهواتهم، حتى غدوا من أصحاب «موسى شهوات».
مثقفون أصيبوا باكرا بأورام المخ، فما عادوا يميّزون طيب القول من خبيثه. وما عادوا يميّزون الصحيح من السليم/ المريض. وما عادوا يوزنون أقوالهم، ولا عادوا يحزنهم أن يشار إلى دائهم، إلى خبثهم، إلى أمراضهم بالبنان، ورم مخهم، فأصيبوا لفورهم، بداء متلازمة الألوان.
مثقفون أصيبوا بورم الدماغ، منذ نشأتهم الأولى، منذ أن أنشأتهم الأحياء، منذ أن رفعتهم مقاعد الدراسة، فمالت رؤوسهم على أكتافهم، داخوا، أعيتهم الثقافة العمياء، فطاشوا بها، إلى الدور والقصور والأبهاء. طاشوا بها إلى كافة الأرجاء والأنحاء. طاشوا بها، لأنها كانت ثقيلة على رؤوسهم الخفيفة، على رؤوسهم المريضة، على رؤوسهم السقيمة، على رؤوسهم التي أصيبت باكرا بداء ورم المخ كما يوصم به سقيم الروح والنفس.
أورام المخ، ليست وقفا على المثقفين وحدهم، ليست وقفا على المثقفين حصرا، بل لطالما يصاب بها حمقى السياسة، لطالما يصاب بها الحمقى من السياسيين.. يظنون في نفوسهم الظنون، حتى باتوا يوصفون أنهم من أهل الظنة. يشعرون أن الرأي رأيهم في البلاد ومآلاتها وحالاتها. وأنه لا تتحرك شعرة في رؤوس الناس، إلّا بإشارة منهم، إلّا بحسب ما يهوون وما يرغبون. يحسبون أن البلاد كلها، إنما هي تحت آباطهم، وأن على الكبير قبل الصغير، أن يقف صاغرا على بابهم، حتى يلقى الإشارة بالبنان، حتى يعرف المسار والمصير، فلا يصاب هو أيضا بعمى الألوان.
هناك قادة كبار، أصيبوا هم أيضا، بداء أورام المخ، فجنحوا إلى الطغيان، حملوا إلى شعوبهم النار والهجير، حملوا إلى شعوبهم وإلى بلدانهم سوء المصير. ارتكبوا الجنايات بحق شعوبهم، بحق بلادهم. عانوا من التوهان السياسي، فصاروا يظنون في نفوسهم الظنون، حتى قادوا الشعوب إلى الهلاك، حتى جرّوا للبلاد النكبة تلو النكبة، وأرهقوا البلاد والعباد بالمآسي والنكبات.
أورام المخ، ليس مرضا طبيا وحسب، بل هو أيضا مرض نفسي، يعاني أصحابه، أكثر ما يعانون من التوهان. فحذار صيبة أورام المخ، فهو شر بلاء تبلى، بل تبتلى به الأوطان.

أستاذ في الجامعة اللبنانية