بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 نيسان 2024 12:09ص أول طلقة لمدفع الإفطار «أضرب» بين «المماليك» و«محمد علي»...

حجم الخط
مدفع رمضان المصاحب لآذان المغرب والفجر، هو أشبه بلوحة تراثية تختزل حنيناً وشوقاً إلى زمن جميل وأيام الخوالي.
فأبناء هذا الزمن يطربون لسماع دوي مدفع رمضان، لأنه يحمل الكثير من المعاني الإنسانية والتاريخية، بإعتبار أنه أصبح تقليداً رمضانياً، تحرص غالبية الدول العربية والإسلامية على التمسّك به، وخصوصاً أن دويه يدخل الفرح إلى قلوب المؤمنين المجتمعين قبيل موعد الإفطار حول المائدة، وألسنتهم تدعو ربهم بتقبّل صيامهم وقيامهم.
*****
• مدفع بيروت:
خلال القرن الماضي وفيما كان عدد سكان بيروت يزيد ويكثر برزت حاجة ملحّة الى وسيلة ليعرف الناس حلول شهر رمضان المبارك للتهيؤ لفريضة الصوم، إضافة الى تعريفهم أيضاً بموعدي الإفطار والإمساك، لا سيما أن بيروت في تلك الحقبة لم تكن قد عرفت بعد جهاز «الراديو» الذي دخلها أول مرة سنة 1928.
لذلك ارتأت الدولة العثمانية أيام إبراهيم باشا إستحداث مدفع في ولاية بيروت، وأن غرض إطلاق المدفع هو إعلام الناس أن حلول شهر رمضان المبارك ثبت بالوجه الشرعي.
فمساء يوم 29 شعبان أو مساء الثلاثين، كانت تطلق من فوهة المدفع 21 طلقة تبشيراً برؤية الهلال وكان يطلق العدد نفسه من الطلقات عند ثبوت هلال شهر شوال إحتفالاً باستقبال عيد الفطر السعيد. كذلك كان يطلق منه 21 طلقة مساء التاسع من ذي الحجة إجلالاً لحلول عيد الأضحى المبارك، لذلك أطلقت على هذا المدفع تسمية «مدفع رمضان والعيدين».
*****
• موقع ومواصفات المدفع:
وكان موقع المدفع أيام الدولة العثمانية بحسب ما يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في الثكنة العسكرية الواقعة على الرابية المطلّة على بيروت، عند ما يعرف اليوم بمجلس الإنماء والإعمار. وكان يشرف على إطلاق المدفع ميقاتي من الأوقاف آنذاك، فيسحب من جيب سترته ساعة معلقة «بكستك» ذهبي، تبيّن إشارة إطلاق المدفع، فيحدث دوياً ترتجّ له المدينة الصغيرة.
ومدفع رمضان كان له دولابان كدواليب العربات، وقذيفته حشوة قماش كتان محشوة باروداً. وكان هذا النوع من المدافع تجرّه البغال من مركزه في ثكنة مار إلياس (ثكنة الحلو الآن) ودام هذا الأسلوب حتى العام 1923.
كان الجيش العثماني يتولى مهمة إطلاق المدفع من أعلى ربوة في بيروت آنذاك وكانت تعرف بمنطقة «الثكنات» أي ما بين السرايا الحكومية ومجلس الإنماء والإعمار الآن.
وكما أشرنا، كان المدفع طوال شهر رمضان المبارك يطلق طلقة وقت الغروب، فور شروع المؤذن في رفع الأذان من أعلى مآذن المساجد، قبل أن تكون قد تزوّدت مكبرات الصوت كما في زمننا، إعلاناً بحلول وقت الإفطار، كذلك كانت تطلق من فوهة المدفع طلقة حين موعد الإمساك قبيل مطلع الفجر.
وعند انفجار قذيفة المدفع بعد إطلاقها باتجاه البحر، كانت تحدث دوياً قوياً ترتج له بيروت المدينة الصغيرة آنذاك.
*****
• نقل المدفع إلى تلة الخياط:
لكن بعد العام 1935، أي بعد 17 سنة على دخول جيوش الحلفاء وانقضاء الدولة العثمانية اتسعت مدينة بيروت جنوباً وغرباً، وظهرت أحياء جديدة كانت تعرف خلال الحقبة العثمانية بظاهر بيروت أي الأحياء الواقعة خارج السور.
وعليه، قررت المفوضة العليا الفرنسية التي كانت تشرف على هيئة شؤون الإفتاء والأوقاف الإسلامية بصفتها جزءاً من الدولة، وبعد مشاورة مفتي بيروت وعلمائها نقل مدفع رمضان والعيدين الى منطقة تراعي المتغيّر، فاختارت محلة تلة الخياط التي كانت تطلّ على معظم أحياء بيروت بسبب إرتفاعها عن باقي المناطق، فأشرف على المدفع وإطلاقه رجال القناصة اللبنانية (جيش الشرق)، وعُيّن المايجور المتقاعد غيناردي مسؤولاً عنه، ومن بعدهم الجيش اللبناني بعد الاستقلال.
وبقي إطلاق مدفع رمضان والعيدين قائماً قبيل الحوادث اللبنانية عام 1975، ولكن من منطقة تلة الخياط، التي تُعدّ أعلى مرتفع في بيروت.
ولكن خلال الحرب التي عصفت بلبنان، ألغي المدفع لأنه كان يتعذر التمييز بينه وبين المدافع التي كانت تستخدم للأغراض العسكرية!
بعد نهاية الحرب الأهلية العام 1990، أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً قضى بإعادة العمل بمدفع رمضان في الأول منه العام 1995، ولأن المدافع الحديثة يجب إبعادها عن تجمعات السكان كون مساحة بيروت وضواحيها قد تضاعفت، جرى استحداث مربض خاص لأحد مدافع الجيش اللبناني قرب السفارة الكويتية في بئر حسن، وتم توجيه المدفع ناحية البحر.
*****
• أصل مدفع رمضان:
وإذا أصبحت طلقات مدفع رمضان التي هي أشبه بنجمات غروبه وليله وفجره، مجرد إحياء لواحدة من التقاليد الرمضانية المحببة عند الناس، فإنها كانت في الماضي حاجة وضرورة ملحّتين لإعلام الصائمين بمواعيد الإفطار والسحور والإمساك، لأنه كان في ذلك الوقت الوسيلة الوحيدة المتاحة للاستدلال على تلك المواقيت.
وبالرغم من تضارب الروايات التاريخية حول أصول نشأة تقليد مدفع رمضان، إلّا أن المؤكد أن بداية الفكرة كانت مصرية المنشأ.
فهنالك دراسات تاريخية تشير إلى أن تقليد مدفع رمضان بدأ عام 1811 في زمن والي مصر محمد علي باشا، حينما إمتلك جيشه مدافع حديثة الصنع، فأمر بإحالة القديمة إلى المستودعات ووضع واحد منها في القلعة كتذكار لإنتصاره. وصودف في أحد أيام رمضان أن أطلقت من القلعة طلقة مدفعية مع آذان المغرب، فظنّ المصريون أن هذا كان لإبلاغهم بحلول موعد الإفطار، فابتهجوا لذلك وسيّروا المواكب لشكره. ومنذ ذلك الحين أمر والي مصر بإطلاق المدافع مع آذان المغرب وعند الإمساك، حتى أصبح تقليداً متبعاً خلال شهر رمضان المبارك.
في مقابل ذلك هناك رواية تشير أن فكرة مدفع رمضان قد سنّها الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت حينما كان يحتلّ مصر، حيث أراد أن يقوم بعمل ما يرضي به أهلها، فأمر بنصب المدافع على قلعة القاهرة وتطلق منها قنابل البارود، إيذاناً بحلول شهر رمضان المبارك، ليصبح فيما بعد تقليداً متبعاً في رمضان.
وثمة رواية أخرى تشير إلى أن ضرب مدفع رمضان ولدت مصادفة في مصر في عهد المماليك، حيث أنه مع غروب أول أيام شهر رمضان من عام 865 للهجرة رغب السلطان المملوكي «خوش قدم» في تجريب مدفع كان تلقّاه كهدية من صاحب مصنع ألماني، وتصادف ذلك وقت الغروب، فظن الناس أنه تنبيه لهم بدخول وقت الإفطار، فخرجوا بعد الإفطار لشكره. ولما رأى سرورهم، قرر المضي بإطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار.
كما أن هناك رواية أخرى، فتعود إلى عصر الخديوي إسماعيل، حيث كان جنود الخديوي يُنظفون المدافع الحربية الموجودة بالقلعة، فانطلقت بالخطأ قذيفة من المدفع وقت غروب الشمس في رمضان، فاعتقد الشعب أنه تقليد حكومي جديد واستحسنوه.
وعندما علمت ابنة الخديوي الأميرة «فاطمة» بالأمر، أعجبت بالفكرة، وأصدرت أوامرها بأن تُطلق قذيفتين يوميا: الأولى وقت الإفطار، والثانية لحظة الإمساك، ومنذ ذلك الحين ارتبط المدفع بنجله الخديوي إسماعيل فسُمِّي «مدفع الحاجة فاطمة».
ويذكر العلّامة علي الجندي، العميد الأسبق لدار العلوم في موسوعته «قرّة العين في رمضان والعيدين» الصادرة عن مؤسسة الأهرام عام ١٩٦٩م، أن القاهرة تمتلك ستة مدافع للإفطار، موزعة على أربعة مواقع، اثنان في القلعة، واثنان في العباسية، وواحد في كل من مصر الجديدة والعباسية، وهذه المدافع تخرج مع صبا أول يوم من رمضان في سيارات المطافئ لتأخذ أماكنها المعروفة، ويرجع تاريخها إلى عام ١٨١٧م، وهي ألمانية الصنع.
ومدفع القلعة هو أهم المدافع، وهو الذي يسمع الملايين صوته في الإذاعة وقت الإفطار.
*****
وفي الختام وبالرغم من أن وسائل الإعلام والمساجد المنتشرة والمزوّدة بالأجهزة الصوتية تُدخل الآذان إلى كل بيت، فإن الإستماع إلى دوي مدفع رمضان بكل شغف هو من الأجواء الرمضانية المحببة، لأن لهذا المدفع حضوره الإنساني الحميم في الذاكرة الشعبية وجزءاً من تراث رمضان المتوارث.
 --------------
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي