بيروت - لبنان

17 تشرين الأول 2023 12:00ص الإصغاء إلى الطبيعة

حجم الخط
ليس سهلا الإصغاء إلى الطبيعة. ليس سهلا أن تسمع ما تقوله حبة رمل لحبة رمل. ليس سهلا أن تدخل في عمق غيمة حبلى بالمطر. ليس سهلا أن تصعد عينيك.. أن تصعد إلى قمة الجبل.
ليس سهلا أن تدور بينك وبين الينابيع، مثل تلك الثرثرات التي لم تتعوّد عليها ولم تتعوّد عليك. ليس سهلا، أن تتخفّى تحت عباءة غابة. ليس سهلا، أن تصغي لحفيف أغصانها، في الأماسي العذبة، في الأماسي الموحشة. ليس سهلا أن تضع خدّك لرنين الحجر، تصغي إليه في ليالي الضجر.
ليس سهلا عليك، أن تستمع لأنين مغارة جائعة. ليس سهلا، أن يرين عليك السكون في هدأة الليل، وأنت على بيدر العمر، تعدّ أكداسه والنجوم بعينيك، وينهمل من جبينك القمح. ليس سهلا أن تكون حكيم الليالي المقفرة.
ليس سهلا عليك، أن تحمل الشمس على ظهرك، وتلهث وراء الريح، تريد الإمساك بأذيالها. ليس سهلا، أن تدير طاحونة العمر، بأذنيك، أن تصيخ السمع للجهات الهاتفات: تعال إلى فرع دوحة.. عدّ أطيارها: ترتل عليك أوراقها والندى، ثم ترسل تنهيدة الترابين، تعلو، ثم تعلو، حتى تكاد تطال السنة القادمة.
جرّبت أن أقول شيئا عن الطبيعة الصامتة، وجدتها كلها ناطقة. لكن كل ما قلته، ما كاد يخرج من فمي، حتى يعود إلى عيني. جرّبت أن أصغي للطبيعة، أروي لها تجربتي، لكنني وجدت كل ما داخلني، هو حكاية لهو وثرثرة، حكايات لها عذوبة البسمات الهاربة، لها عذوبة البسمات الضائعة.
الطبيعة أعظم، من أن تقع لك في دفتر الذكريات، أو في كتاب المعجزات. الطبيعة جبل ونهر ونار، وحقول، وبحار لاهثة من عناق الأفق والموج. الطبيعة حجر من الكيمياء.. الطبيعة حجر الكيمياء، فيه كل من دبّ عليها، وندّ في برهة التخلّي، عن الإحصاء.. ندّ عن كل ما تحت سماواتها.
من يحصي الطبيعة حين تذرر فستانها، من يدخل أشياء الطبيعة في الحاسوب؟ أين حجر الذاكرة؟ أين الرحى.. تدور على القرون الغابرة، تسحق عظام الكلمات، تسحق كل ما يسقط من الدلو، من برجه.. تراه يشعّ، تراه يضيء، تراه يسفّ النور عليها، مثل خيط من شعاع؟!
ليست الوديان شراييني، بل شرايين الطبيعة، تنفجر دمائي فيها، حين أشمّ هواء الوادي، بين كفين، بين عينين، بين ضفتين، فوق تلال الكروم الذاهبة نحو الأصيل، فوق التلال، حين تنادي الفجر الجديد.
هل أتصور نفسي ساعة بلا شرايين ولا أوردة؟ ماذا دهاني، لأقول مثل هذا القول، وأنا أقل إبن آوى، يخرج من بطنها، إلى رأس صخرة يعتليها ويعوي عليها.
جدار من حجال هوى فجأة أمام عيني، وطار. لا أزال أرتجف حتى الساعة، من دوي الحجارة تساقط من جدار، فيه كل الذكريات. لا تزال أذناي، تعيشان على وقع حجارة هَوتْ، على حين غرّة، من أجنحة، سرب من الفراشات، سرب من الظباء، سرب من الحجال.
أي إصغاء للطبيعة هو هذا! تدخل الأرض في المسام، ثم تمتد، تمتد.. تتمدد في الزمان.. تتمدد في المكان. وإذا بي أنا! وضعت أذني على خد وريقة خضراء عرشت عليها، مثل عقرب الوقت. تركتها تكمل سمفونيتها، من أول الدهر، إلى اليوم الذي جئته. هل هناك أجمل من الإصغاء لوريقة ذابت على أذني، خضلة، وهي تكمل لحنها؟!
تركت الريح تطبع قبلتها على جبهتي، صرت كلما أقبلت عليّ تقبّلني، أحصي الرياح، وأحصي الجباه، وأحصي القبل، وأحصي الحجارة الهاربة.
من مات، ولم يأخذ من الريح، قبلة الوداع الأخير. من مات ولم توصه الريح، وصايا الريح، محفورة على الحجارة، على الأيدي التي استدارت بها، استدارت لها، على الجباه، على ذرات التراب، على صفحة الماء، على خد المساء، على سهم من الضوء، يشق عتمة الفجر، على قبلة الشمس، على جنح طير، قرّر أن يطير.

أستاذ في الجامعة اللبنانية