بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تموز 2023 12:00ص البسطا التحتا البسطا الفوقا

حجم الخط
بالتأكيد، لا أتحدث ها هنا عن هاتين المحلتين التاريخيتين، من بيروت، حيث كنا ننحدر إليهما من محلة الحرج، بالترام الآتي من شارع المتحف وبدارو والنهر وشارع سامي الصلح. فهذه المحلات كلها، لها تاريخها الذهبي في قلبي. وإنما أنا أتحدث، عن معنى نشوء البسطا في المدينة، في العاصمة، حيث كانت القوافل تنيخ أمام الخانات، محمّلة بالبضائع الآتية من فلسطين وبصرى الشام وعنجر والبقاع ودمشق وحمص وحوران والسويداء. أريد أن أتحدث عن معنى البسطا التاريخي، بما هو جزء من تاريخ المدينة، جزء هام من تاريخها الإجتماعي والاقتصادي: تنزل حمولة القوافل; حمولة الجمال، حمولة البغال، حمولة العير والحمير، في البسطا المخصصة لها. يتوزع التجار النواحي منها.. هذه الناحية مخصصة لتجار البن، وتلك مخصصة لتجار الحبوب، والأخرى مخصصة لتجار القطن والكتان والصوف.. فما بالك بتجار الزيت والسمن والدبس، الذين ينفردون بأجمل بسطا، وحولهم بضاعتهم المحمولة إلى مصانع بيروت، لصناعة الحلويات والمأكولات، وخدمة الناس في البيوت.. فما بالك بتجار الخضار والفاكهة والهال والثمار.. فما بالك بتجار البطيخ.
كان كبار القوم ينزلون إلى البسطا، يفترشون سوقها، يفترعون خاناتها، يبيعون ويشترون، مما يعرضونه في سوق البسطا، أو مما يعرض عليهم في سوقها أيضا.
كانت الأعمال التجارية على قدم وساق. وكان الناس يحضرون إلى أسواق البسطا في مواعيدها. وقد خصصت أيام لوصول بضاعة الأقاليم والمدن المحيطة ببيروت. فكانت البسطا التحتا، كما البسطا الفوقا معرضا للتجارات كلها، من البابوج للطربوش، ومن الأوقية إلى القنطار، ومن الكيلة إلى التنكة، إلى الجرّة والبرميل والحلّة، وغير ذلك من الكيل، من المكيال.
أمس، كنت إلى طاولتي في إحدى مقاهي الرصيف، وكان بإزائي من الجهة اليمنى، مجموعة من سماسرة العقارات، ومن معقّبي المعاملات، يتحدثون فيما بينهم، عن الضرب في العقارات اليوم، وعن الضرب في دوائر النفوس، وعن الضرب في دوائر الوزارات كلها، عن الضرب في المديريات كلها، من مديرية التعليم، حتى مكاتب التصديق، في وزارة التربية وفي وزارة العمل وفي وزارة المغتربين، كما في سائر السفارات، كما في الطلبات للبنوك ولشركات السفر وسائر الوكالات بلا إستثناء.
كنت أنصت للأحاديث الجارية فيما بينهم بكل حراراتها المعهودة، بكل تلفيقاتها، بكل سمسراتها، بكل غشوشها.. كانوا يتحدثون عن طلب الطوابع المالية، سمعت أحدهم يطلب على الهاتف، عددا عظيما من طرحيات الطوابع المالية، عددا عظيما من أوراق الطوابع.. سمعته بأذني، يقول لصاحبه على الهاتف: أريد طوابع من فئة الألف ليرة، فئة الخمسة آلاف، من فئة العشرة آلاف، أشتريها بمئة ألف. أشتري مئات الطرحيات بهذا السعر. أشتريها بأسعار تزيد عن سعرها، بمئة مرة، وأيضا بعشرات المرات.
كان السؤال عندي: بكم يباع إذن طابع فئة الألف؟ فردّ عليّ أحدهم: بـ150، أو بـ200، هذه هي السوق. عرفت بعد ذلك أن الطوابع صارت على البسطا، بدل أن كانت تباع لدى الوكلاء. كما كانت العادة، في سوق البسطا الفوقا، والبسطا التحتا، في دكاكين وحوانيت، البسطا التحتا أو البسطا الفوقا.
تغيّرت الدولة، بتغيّر عروضها كلها على البسطا. كنت أسمع عن الوظائف تعرض على البسطا، من وظيفة مأمور الأحراج، حتى وظيفة التعاقد، حتى وظيفة التعيينات، حتى وظيفة الملاكات. استيقظت فجأة على سوق البسطا التحتا، على سوق البسطا الفوقا، على سوق البسطات كلها من تاريخ البلاد، بل من تاريخ العاصمة في البلاد.
الطريقة نفسها، تتبع اليوم في الإنتخابات: الإنتخابات الإختيارية والبلدية والنيابية، والإنتخابات الرئاسية. فكل هذه الوظائف تعرض في سوق البسطا; البسطا التحتا، أم البسطا الفوقا لا فرق!.. فكل عرض له سعر. فكلفة الوظيفة هنا، مثل كلفة الفروج، ما دمنا في وطن المزرعة. وجميع أنواع الإنتخابات، تدخل سوق البزارات، تدخل سوق الطير، سوق الدجاج.
تتقدم العروض على أنواعها، وتقدم العهود والتعهدات مسبقا، فينبري الزبون، يعرض على التجار، الخدمات، تجار السياسات وتجار المقاولات، وتجار العقارات، وتجار الرئاسات والوزارات.
زبائن البسطا وتجارها، على المحك اليوم.. فكيف يسوّق الرئيس، في سوق المزادات؟ وما هي الخدمات التي يمكن أن يبيعها؟ وما هي الوظيفة التي يشتريها؟ ومن هم التجار الذين يبيعون ويشترون في الأسواق؟
قديما قديما، وقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي، وأنشده:
وَغَيْرُ كَثِيرٍ أَنْ يَزُورَكَ رَاجِلٌ/ فَيَرْجِعَ مَلْكًا لِلْعِرَاقَيْنِ وَالِيَا

أستاذ في الجامعة اللبنانية