20 شباط 2024 12:00ص الست زلفا

حجم الخط
ربطتني صلة مودّة وحسن جوار بطرابلس بالسيد سعدي عكاري، شقيق المرحوم نبيل عكاري، الذي غدر بالرئيس كـميل شمعون، والذي توفي منذ أعوام.
كنت أمرُّ بشارع الثقافة، فوجدته يجلس على كرسيه المعتاد أمام باحة، بل «حديقة بناية عبس»، في شارع الثقافة، لوّحت له من بعيد، فجذبني إليه بوجهه البشوش، كسائر أبناء آل العكاري بطرابلس. توجهت إليه، وسلّمت عليه وجالسته مستأنسا، لطول فراق بيننا وحادثته بالذكريات القديمة في مدينة، لم يبقَ فيها ولا منها، إلّا الذكريات.
استعاد الأخ سعدي أمامي البارحة، ذلك اليوم التاريخي في عائلته، وفي باب التبانة، وفي طرابلس، حين أذاع راديو لبنان، عصرا، ومعه كل وكالات الأنباء العربية والأجنبية، الخبر الذي هزّ الأوساط اللبنانية والعربية والعالمية. خبر إطلاق النار على الرئيس كميل شمعون، ظهر ذلك اليوم الواقع فيه 30 أيار 1968، وهو يهمّ بالخروج من مركز حزب الوطن الأحرار، في السوديكو، شارع عبد الوهاب الإنكليزي. إذ نجا الرئيس السابق كميل شمعون، من الموت، بعد أن أصابه الجاني، الشاب الطرابلسي نبيل عكاري بثلاث طلقات كادت تقتله، من مسدس حربي، كان يخبئه في ثوبه. فنجا الرئيس بأعجوبة بعد ما أصابه في صدغه وذراعه وصدره. وألقي القبض على الجاني، نبيل عكاري.
 كانت تلكم، أولى محاولات الإغتيال السياسي الذي تعرّض له الرئيس شمعون، والذي استهدف بعد ذلك مرات عديدة.
مساء ذلك اليوم المشؤوم، صعقت وعائلتي ومختار باب التبانة أبي، بالخبر المشؤوم، والذي كان له وقع الصاعقة علينا.
صعق أيضا أصحاب نبيل، ومعهم جميع معارفه، لأنهم ما كانوا يرون في نبيل إلّا صورة الشاب الوديع والخلوق والمهذّب، لا صورة القاتل، ولا المدرّب على القتال.
قال سعدي: كثرت التساؤلات، وكثرت التحليلات، وكثرت الاجتهادات، غير أنه لم يتوصل أحد من المحققين ولا المتابعين لمحاولة الاغتيال الآثمة، إلى نتيجة، ولم يقعوا ولو على دليل واحد، عن محرّضين دفعوا بنبيل ليحمل مسدسه، ويذهب سرّا عن الجميع إلى بيروت، ويترصّد خروج الرئيس شمعون، ويطلق النار عليه.
قال سعدي: حُكم على شقيقي نبيل بالإعدام، ولم يقل شيئا عن محرّضين، حرّضوه. قال نبيل للمحقق: إن دوافعي، تتصل بموقف الرئيس من حلف بغداد، وخروجه عن خط عبد الناصر، الذي كان يشعل باب التبانة بخطاباته.. وعن تحالفه مع إيران، التي كانت تمدّ إسرائيل بالسلاح، في حرب الأيام الستة التي اشتعلت عشية الخامس من حزيران 1967.
قال سعدي: كان الأهالي في طرابلس، كما في زغرتا والشمال، وفي سائر مناطق لبنان، يؤيّدون الرئيس عبد الناصر، ويموتون من أجله. وأنا مثلهم أموت من أجل جمال عبد الناصر.
يتابع سعدي قائلا: كنا في قصر القلة، مع المخاتير والشباب الطرابلسيين، نزور الرئيس رشيد كرامي. خطب يومها في الجموع، وعرج سياسيا، على إيران وصلتها بإسرائيل، وصلة الجبهة اللبنانية ورئيسها كميل شمعون بإيران الداعمة لإسرائيل.
يتابع سعدي قائلا: «نبيل ما حملوا راسو، لدى سماعه ذلك، فبيّت الإنتقام من الرئيس شمعون»، لعيون الرئيس عبد الناصر.
وكرّر نبيل هذه الأقوال، أمام المحققين. وما كان لديه أي شيء يضيفه، فحكموا عليه بالإعدام.
كانت عائلتنا وكذلك أبناء محلة باب التبانة، كما أبناء طرابلس جميعا، يتسقطون أخبار أخي نبيل في سجنه في رومية يوما يوما.
وفي يوم من الأيام، علمنا من الراديو، أن الست زلفا عقيلة الرئيس شمعون، قد دخلت المستشفى، لإصابتها بورم خبيث، وأن حياتها بخطر.
وكانت والدتي تسمع عن السيدة زلفا وعطفها على الناس، فشاورت أبي المختار، بزيارتها في مستشفى حداد بالأشرفية، وتوافق جميع أفراد أسرتنا الصغيرة على ذلك.
وصباح اليوم التالي ذهبنا إلى بيروت لعيادة «الست زلفا» في المستشفى بالأشرفية.
كان بالقرب من المستشفى بائع ورد، ذهبت إليه، وقلت له: «بدي باقة ورد بتفك مشنوق». فنظر إليّ باستغراب. أعلمته بأمرنا، فقال: أنا سأكون معكم.
قال سعدي: حملت باقة الورد الضخمة. وتقدمنا بائع الورد، ونحن أسرة نبيل; أمه، أباه، إخوته، أخواته جميعا، خلف بائع الورد.
واجهنا الحرس، وواجهه بائع الورد. وتقدمت من الحرس، وقلت له: لو سمحت: صل الرئيس بهذه الورقة. فأخذها من يدي، وحملها للرئيس. وما هي إلّا دقائق، حتى خرج الرئيس كميل شمعون إلينا بنفسه. قال لنا: تفضّلوا إلى الصالة. ثم أذن لأمي أن تزور «الست زلفا» في غرفتها.
دخلت أمي على «الست زلفا»، ثم خرجت بعد عشر دقائق، وورائها الرئيس، فهتفت قلوبنا وارتجفت منا الضلوع. قال متوجها لأبي، وهو يجول بعينيه علينا: أهلا وسهلا. ثم جلس، ووجهه يكاد ينفض عن عينيه، نظارتيه، أطرق كثيرا. فنهض أبي، وأشار علينا بالنهوض، وهمّ بالخروج. فنهض وراءنا الرئيس وقال: «خدوا معكم العفو».
كانت برهة حاسمة في حياة عائلة، عاد إليها إبنها من الموت.
قال سعدي: انتظرنا لأسابيع، ولم يصدر شيء بشأن العفو الرئاسي. فعدنا بوفد جديد هذه المرة، إلى الرئيس شمعون، في مكتبه بالسوديكو. قال لنا الرئيس: «معليش صار في تلحوس بزاق». قال لنا الرئيس أيضا: عودوا إلى طرابلس. أنا طالع على القصر الجمهوري.
كانت حكومة الشباب برئاسة الرئيس صائب سلام، في أول عهد الرئيس سليمان فرنجية. وكانت إيران قد قطعت علاقاتها مع لبنان.
دخل الرئيس شمعون إلى مكتب الرئيس فرنجية، يراجعه بالعفو الرئاسي عن غريمه نبيل. فأجابه الرئيس: «بدنا نرجّع العلاقات مع طهران».
نزل الرئيس شمعون، وتوجه فورا إلى المطار: «يده بالعفو الرئاسي، ورجله في الطائرة إلى طهران».
مساء ذلك اليوم أذاعت طهران عن نيّتها لعودة العلاقات مع لبنان. فوقّع الرئيس سليمان فرنجية العفو الرئاسي عن نبيل.
قال سعدي: تسلّمنا العفو وذهبنا إلى العدلية لتنفيذه، ففوجئنا بدعوى أخرى: «أن نبيل، سحب الفرد على شاب بطرابلس، وهناك حكم عليه».
عاد آل العكاري إلى طرابلس وزاروا مساء الرئيس رشيد كرامي. أطلعوه على سبب تأخير إطلاق نبيل. فتوجه إلى الوفد قائلا: إذهبوا وسلّموا أنفسكم بالسراي بطرابلس «بتروحوا الصبح كلكم. وبترجعوا المسا كلكم».
وفي صباح اليوم التالي عدنا إلى العدلية ببيروت.
أعيد فتح التحقيق من جديد. خرج أهلي كلهم، واستدعيت أنا وحدي، إلى الغرفة المجاورة.
قال سعدي: كنت أمام أدوات التعذيب كلها، أرادوا إرهابي، وفجأة وصل «الحصان»، شاب من جماعة الرئيس رشيد كرامي همس في أذني: «لا تخاف». أراني ورقة فيها طلب إخلاء سبيلي ممهورة بتوقيع رشيد أفندي.
 ثم انفرد «الحصان» ( لقب الرجل) بالمحقق فأخلى سبيلي. وأمر إخلاء سبيل شقيقي نبيل. فتوجهنا إلى رومية، واصطحبنا نبيل إلى طرابلس.
وفي صباح اليوم التالي، خرجت باب التبانة، نساء ورجالا، إلى دير القمر، يؤمّون ضريح الست زلفا، وعلى رأسهم الرئيس كميل شمعون، وإلى «جانبه غريمه نبيل».

أستاذ في الجامعة اللبنانية