بيروت - لبنان

16 أيار 2023 12:00ص السوسنة البيضاء

لوحة لأمل نجار لوحة لأمل نجار
حجم الخط
حكاية فكاهية تُروى تحت عنوان السوسنة البيضاء/ L`Iris blanc. تولى فابكارو، كتابة سيناريو المجلد الثالث الذي سيصدر في 26 أكتوبر/ تشرين الأول. في حين لا يزال ديدييه كونراد، يتولى مهمة الرسم، منذ المجلد الخامس والثلاثين عام 2013، بعد غياب ألبير أوديرزو، في القرن الأول قبل الميلاد.
هدف هذه الحكاية التشجيع على «التفكير الإيجابي» والنمو الشخصي. وكان اسم «السوسنة البيضاء»، قد أطلق على مدرسة فكرية جديدة، في روما، تدعو إلى الحياة الصحية والتنمية الشخصية.
ومن تعاليم هذه المدرسة، وأقوالها المأثورة، التي ظهرت في روما:
«لإضاءة الغابة، يكفي أن تتفتح سوسنة واحدة فيها».
وكان الامبراطور الروماني يوليوس قيصر، كما تقول حكاية «السوسنة البيضاء»، كان أول من أراد التشجيع على إشاعة هذه الذهنية لدى قواته المحبطة، والتي كانت قد تمركزت بالقرب من القرية الوحيدة، التي عَصَتْ على جنده، في بلاد الغال، فكانت لا تزال تقاوم جيشه، وتقف عقبة كأداء، أمام إكتساحه كل البلاد.
وما لم يكن في الحسبان، هو أن أصداء هذه الفلسفة، كان لها أن تدخل القرية، وتتسبب بإنقسام بين مؤيديها ومعارضيها، فتسهّل سيطرة جيش القيصر على المدينة.
وقد تبنّت دار ألبير رينيه، إصدار هذا العمل الرائع في العام 1961، فذاع صيته، وانتشر انتشارا عظيما، وقد ترجم إلى 100 لغة ولهجة، وبيعت أكثر من 393 مليون نسخة، خلال عام.
ذكّرتني حكاية «السوسنة البيضاء»، بحكاية روبنسون كريزوييه، أراد مؤلفها دانيال ديفون، (1719م)، تبرير الغزو الأوروبي لأميركا، وإستعمارها. ولكن هذه الحكاية، سرعان ما إنتشرت في أدب الأطفال انتشارا سريعا، فكانت قد دخلت إلى المدارس، وكذلك انتشرت في حقل التربية، لتقول للناشئة بضرورة الاعتماد على النفس، والحض على نكران الذات، من أجل التنمية والنهوض بالمجتمع. ثم لم يلبث، أن نسي الناس أصل الحكاية. فصارت رواية روبنسون كريزويه، من أدب التربية، لا من أدب الحرب والإستعمار.
حكاية «السوسنة البيضاء» اليوم، تشهد على الإنزياح الأدبي أيضا. أخذت من فتوحات القائد الروماني يوليوس قيصر، درسا عظيما، بأن المدينة العاصية أمام الجند، سرعان ما تفتح للجيش أبوابها، إذا ما إستطاع هذا الجيش، أن يزرع فيها عميلا واحدا، يمهّد الطريق لفتح المدينة، من كوتها الصغيرة، غرس عميل في البداية، لا غير.
حكاية «السوسنة البيضاء»، تمنح قرّاءها اليوم، درسا تربويا، إنزاح نصها، بإرادة الدار والكتّاب والمتعاونين معها، وكذلك بإرادة الرسام الذي يرسم صور السلسة للمجلدات الكبيرة، ورواية حكايتها. فنراها تقترب من نفوس الناس في جميع صفوف المجتمع. ولهذا، نراها تترجم إلى أكثر من مئة لغة ولهجة. وتوزع لأكثر من 393 مليون قارئ. تضرب بذلك الرقم القياسي، في طباعة المجلات. وكل ذلك، ما كان ليتحقق لها، لولا إنزياح النص، عن الدرس العسكري، إلى الدرس التربوي والإجتماعي. لولا إنزياح النص عن دروس الحرب، وجنوحه إلى دروس السلم والسلام.
لديّ قراءة مختلفة، لديّ فائدة مختلفة، لديّ إنزياح مختلف للنص الأدبي.. لم لا..! فنص (السوسنة البيضاء) حمّال أوجه عدة، وهذا من عظمة الكتابة.. تلك العظمة، التي تطوّع النص، لما يقرأ في النفس، من مشاهد الحياة ومن دروسها.
«السوسنة بيضاء»، هي أم عظيمة وقوية، لزوج، ولولدين، حاصرتها الحروب. فتحت النيران في شوارع مدينتها. بدأت الإنفجارات ترعد في سمائها. أخذت الحرائق تشتعل حولها. حاصرت النيران، جدران المدرسة، جدران البيت، جدران الجامعة التي تعمل فيها. حاصرت النيران عمل الزوج ومدرسة الطفلين، وغرفة النوم، والسرير والملعب والمطبخ.
وحدها السوسنة البيضاء، اشتعل الضوء في رأسها، تماما كما يشتعل للرأس شيبا. أخذت القرار بالتفتح، حيث لا نار ولا حرب.. ولو بهجر كل سنوات التعب، كل مكتسبات العمل، كل العواطف العائلية والبلدية والوطنية.
حملت السوسنة البيضاء، حقيبتها، ملأتها بتاريخ البلاد، وغادرت، إلى حيث يمكن أن تتفتح في مهاجرها. على كتفيها ولدان، وأمامها متحف الغموض، وخلفها زوج يهتدي بخطوها.
السوسنة البيضاء، اليوم حقل من السوسن، حيث البُعد عن النيران، وحيث العيش بأمان، وحيث العمل، كما يجب أن يكون العمل.
السوسنة البيضاء اليوم، حكاية امرأة من ضوء، في ليالي الحلكة. حكاية وطن يعيش الظلمة والظلام تحت وطأة الحكام الظلام. حكاية وطن تضيئه الحروب والنيران!

أستاذ في الجامعة اللبنانية