بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 آذار 2024 12:00ص «السيبانة» توديع للحياة المعتادة استعداداً للدخول في شهر رمضان

حجم الخط
كانت مدينة بيروت التي ترسّخت جذورها منذ القدم على التعبّد والتديّن تُعَدّ في الماضي خلال شهر رمضان المبارك من المدن الزاهية، إذ كانت تزدان شوارعها وزواياها وتضاء فيها المصابيح ويغلب على أجوائها الطابع الرمضاني.
وقد كان لشهر رمضان المبارك تقاليد وعادات دينية واجتماعية متعددة الجوانب والمنافع الحسنة المتوارثة من جيل إلى جيل، حتى أصبحت هذه التقاليد والعادات جزءاً من المظاهر المحببة والمألوفة التي ارتبطت بتاريخ بيروت وتراثها الشعبي...
***
• «سيبانة» رمضان:
إذا كان الاستعداد الروحي والديني لصيام شهر رمضان المبارك يبدأ قبل شهرين من حلوله، بصيام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع طيلة أشهر «الهلّة» إقتداءً بالسنّة النبيوية الشريفة، وبالتالي الإحتفال بليلة النصف من شعبان، فقد اعتاد البيارتة أيضاً التحضّر له نفسياً من خلال نزهات كانوا يقومون بها أواخر شهر شعبان (غالباً ما يكون آخر يوم أحد قبل حلول الشهر الفضيل)، ليودّعوا حياتهم المعتادة بكل مباهجها ومسرّاتها وسرورها، ويتحضّروا للدخول في شهر رمضان والإنصراف خلاله للتعبّد والصيام والقيام.
***
فكان الناس يخرجون آخر يوم عطلة أسبوعية من شهر شعبان إلى الحقول والبساتين والمنتزهات مع عائلاتهم وأولادهم وأصحابهم، لا سيما المناطق الحرجية البعيدة عن بيروت ذات الطبيعة الخلّابة للتفيؤ بظلال الأشجار المعمّرة، وبجانب الأنهر والشلالات وأعين المياه، فيعدّون «التبولة» ويشوون اللحمة، ويقضون النهار في أكل ولهو ولعب وغناء، في شكل من أشكال «السيران» كما كان يسميها البيارتة، التي باتت تعرف اليوم بـ «البيك نيك»، وذلك إشباعاً للنفس ليتسنّى لها الإخلاص في العبادة.
***
• تسميات مختلفة:
وهذه النزهة التي إعتاد البيارتة منذ القدم على تسميتها «سيبانة»، فإنها تختلف من بلد إلى بلد، على الرغم من أن تقاليدها ومظاهرها متشابهة في كثير من المدن الاسلامية. إذ تسمّى هذه العادة «الشعبنة» في أرض الحجاز و«الشعبانة» في المغرب و«حق الليلة» في الإمارات وعُمان و«قريش» في الكويت و«الشعبونية» في فلسطين، و«ليلة الناصفة» في بعض أجزاء الجزيرة العربية.
***
• أصل «السيبانة»:
يشير المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري أن ظاهرة التنزّه قبل حلول شهر رمضان عرفت قديماً في المغرب بإسم «شعبانة»، لأنها كانت تقام في الأيام العشرة الأخيرة من شهر شعبان، وخصوصاً أن المغاربة يسمّون ليلة التاسع والعشرين من شعبان «الليلة الكذابية» لأن رؤية هلال رمضان ليست مؤكدة في تلك الليلة. ويرجّح المحامي فاخوري أن كلمة «سيبانة» باللهجة البيروتية، هي تصحيف لكلمة «شعبانة»، لأن قسم كبير من العائلات البيروتية أتت من المغرب العربي.
• «الشعبانة» المغاربية:
أما إذا إنتقلنا إلى بلاد المغرب العربي، فإن لـ«الشعبانة» مظاهرها وطقوسها. فالمغاربة يحرصون على إحياء «ليلة شعبانة». فتقام الاحتفالات بالمناسبة التي يتخللها الأناشيد والمدائح والموشحات، فتراهم بزيّهم التقليدي، جلباب وطربوش أحمر يشاركون في تلك الإحتفالات ينشدون وهم ينطربون لسماع الطرب الأندلسي الذي يتميزون به.
***
• «الشعبنة» الحجازية:
وتستمد تسمية «الشعبنة» من شهر شعبان. وإحتفال «الشعبنة» هو تراث شعبي حجازي بدأ بعد دخول قريش في الإسلام.
فـ«الشعبنة» لا تزال حتى أيامنا هذه تفرض وجودها وتحوّل أواخر شعبان إلى ليلة لجمع شمل الأسر وذوي القربى والأصدقاء والأحباء والجيران وأبناء الفريج الواحد (الحي) لتوديع الفطر وإستقبال الصيام والقيام، وذلك من خلال إقامة المآدب وتقديم الأكلات الخاصة بالمناسبة، فضلاً عن مزاولة الألعاب والرقصات الشعبية والغناء الحجازي.
وكانت الأسر الحجازية تتحضّر في تلك الأيام لإقامة المآدب في النهار أو ما تعارف عليه أهل الحجاز بـ«القيل»، حيث «تمتد سفر الطعام على الأرض بعد فرشها بالحنابل الحمراء في المزارع القريبة والمتاخمة لمكة»، وذلك هربا من حرارة الشمس اللاهبة.
***
• «القريش»:
ومع مرور الزمن تطورت هذه الإحتفالية في عدد من دول الخليج فصار يحتفل بالإستعداد لبدء صيام رمضان بيوم «القريش». وكلمة «القريش» في اللغة العربية تعني السخاء، (فيقرقش الإنسان) أي يسمع صوت النقود في جيبه، ومن هنا جاءت التسمية حيث كانت كل أسرة تجود أو «تقرقش» بما لديها من طعام وشراب، حيث إعتادت كل الأسر على حمل جميع أنواع الأطعمة المتوافرة في المنزل والذهاب بها إلى بيت كبير العائلة، للاحتفال بقدوم الشهر الفضيل.
***
• «التكريزة» السورية:
أما في سوريا يسمّون هذه النزهة بـ«تكريزة رمضان»، وهي التسمية نفسها المستخدمة عند بعض المصريين، فيودّعون شعبان استعداداً للصيام ويقضون نهارهم بالأكل والشرب واللعب، وتختلف نوعية الطعام عما يؤكل في رمضان، ويفضّلون الأكلات التي تحتوي على زيت الزيتون.
وكانت «التكريزة» تمتد أسبوعاً ويقومون باستئجار بيوت في الغوطة يقضون فيها الأيام الأخيرة من شعبان، وبعضهم كان يبدأ «التكريزة» في منتصف شعبان، ولا سيما إذا كان له أقارب في مناطق الإصطياف.
***
بهذه الأجواء المفعمة بالمحبة والمرح والسعادة كان الناس يودّعون الأيام الأخيرة من شهر شعبان، قبل حلول شهر رمضان المبارك، مستعدّين لإستقباله بقلوب مملؤة بالتقوى والإيمان.
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي