بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 آب 2023 12:00ص الشجار العائلي

حجم الخط
الشجار اللبناني الدائم، هو نوع من الشجار العائلي الدائم، تحكمه المطامع البسيطة والتافهة. يحكمه الإرث، والموروث، والموروثات. تحكمه العادات والتقاليد، في وضع اليد على الأصول والممتلكات.
كل شيء في الشجار اللبناني، إنما يعود إلى تقاليد الشجار العائلي. شجار يقع بين القادة، بين السياسيين، بين الأحزاب، بين التقليديين أنفسهم، بين التغييريين أنفسهم، بين الصغار، بين الكبار، بين الموالين أنفسهم، بين المعارضين أنفسهم، ثم يتدخل المصلح، يتدخل المصلحون.. ثم تهدأ النفوس، وتنفرج القلوب، وترتاح الأعصاب، بكلمة من هنا، وبكلمة من هناك.. بمساومة من هنا، ومساومة من هناك. ويعود جميع المتخاصمين، تحت سقف التنازل، تحت سقف التنازلات، تحت سقف الاعتذار، تحت سقف الاعتذاريات.. ولكن حتما، بعد «تبوييس» اللحى.
ليس في لبنان إلّا الشجرة العائلية، تعرّش عليها السنانير والحيات، ويغطّ عليها الحمام، ويغطّ عليها الغربان، وتقف في أعاليها النسور، وتقف في أعاليها العقبان، ويصيح من فوقها الببغاء.
ليس في لبنان أشجار عائلية متنوعة، وإنما شجرة عائلية واحدة، تسمع من جميع من تسمع، أن جميع اللبنانيين، من جذع، بل من أصل، بل من فرع، بل من غصون، بل من عظم ولحم أم واحدة، بل من لحاء وخشب ونسغ، وماء، شجرة أم واحدة.
نعم جميع اللبنانيين، من شجرة أم واحدة.. لِمَ لا!. من شجرة عائلية واحدة. أصخ إليهم السمع في المهاجر، في المغتربات. أعطهم أذنك في الأعياد وفي المواسم، وفي الاحتفالات. استمع إليهم في الأفراح وفي الأتراح، وفي الليالي الملاح. تراهم يتغنّون بأنهم عائلة واحدة. تراهم يفخرون ويتفاخرون، بأنهم من أصل عائلة واحدة.
تراهم يفتشون عن الروابط التي تجمع بينهم. تراهم يميطون اللثام عن الوشائج، عن الصلات، عن أواصر القربى، عن صلة تمسّك الأقارب. فهم لا يفتأون يفتشون عن أدنى صلة، ليعبّروا عن أنهم أقارب، أبناء عم. ليعبّروا عن أنهم من شجرة عائلية واحدة، بينهم صلة رحمة، بينهم صلة مودة، بينهم وشائج ونسوغ وعروق وزيجات ومصاهرات، ولو باعدت بينهم الجهات، بينهم حب قديم جديد، ولو باعدت بينهم الوديان، ولو باعدت بينهم البقاع، ولو باعدت بينهم الجبهات.
الشجار العائلي عند اللبنانيين، لا يفسد في الود قضية، كما يرددون، كما يقولون. تعلموا هذه الحكمة منذ قديم الزمان، ورثوها عن آبائهم، عن أجدادهم. وساروا عليها من عصر إلى عصر، ومن مصر إلى مصر، ومن مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، ومن حي إلى حي.. وصاروا ينادون عليها في الأسواق، وصاروا ينادون عليها في الوديان!
لا عيب في الشجرة العائلية عند اللبنانيين. وإنما الشأن، شأن الطيور التي تحط عليها. شأن الزواحف التي تزحف عليها. شأن المتسلقين، الذين يتسلقون عليها. شأن البوم والغربان، والبواشق والجوارح والطيور المهاجرة، التي تحط عليها في المواسم. تنقر الغصون العائلية حتى تعرّيها من أوراقها، وتدخل في شجار موسمي بينها، لا دخل للشجرة العائلية به، لا من قريب ولا من بعيد، إنما هو شأن الطيور التي حطّت عليها، وأخذت في نخر الغصون، وأخذت في الترنيم على الغصون، وكأنها من أصول شجرة الدلب في لندن، التي كانت تنمي عليها الربّات، وجميع أنواع الآلهة، من خلال موسيقى عيدانها، التي تضربها الريح، كما تقول الأساطير القديمة.
الشجرة العائلية في لبنان، أقوى من كل العواصف، لا تهزّها الرياح، مهما اشتدّت عليها. تقوى على الصقيع، تقوى على الحرائق، تقوى على موجات الحر.. لا تثقلها السنانير، ولا الزواحف. لا تثقلها الغربان ولا يثقل أغصانها البوم، ولا يؤرق نومها صوت الببغاء. وإذا ما تناهى إلى سمعك الشجار العائلي، فقل حتما، إنه شجار فوق الشجرة!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية