بيروت - لبنان

31 آب 2023 12:00ص الشيخ يوسف الأسير تقاطع تجربتين

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
يتجلّى مفهوم التقاطع في جميع تفاصيل حياة وثقافة هذا الشيخ الأزهري والنهضوي، حيث تلتقي التجارب الإنسانية في بنى ثقافية مشتركة، تعكس وعي المثقف والملتزم، بذاته ومحيطه، وسط إستجاباته للتحديات المعاشة، ونظرته إلى الحياة المتنوعة ثقافيا، بوصفها أيقونات التعبير الإنساني، في الكتابات التحليلية، وفي البنى الفكرية، وأدب السيرة الذاتية.
نحن إذن، كتاب الباحثة والأكاديمية منى عثمان حجازي: (الشيخ يوسف الأسير الأزهري والنهضوي، حياته وآثاره 1815 - 1889, دار نلسن. رأس بيروت. ط1. 2023: 200ص. تقريبا).
وهذ المؤلف، إنما يأتي في هذا السياق، إذ يركز على ثقافة هذا الشيخ الجليل، ويبيّن مدى تمكّنه، من بناء ثقافي تواصلي، بين تجربتين: السلفية التراثية من جهة، والنهضة الحداثوية من جهة أخرى. وذلك من أجل أن تبنى الأجيال على قواعد متينة، ثم لتتفرع في غصون مورقة، تستدعيها أسباب الحياة الجديدة.
فالباحثة منى عثمان، إنما أرادت أن تعالج، مدى التقاطع والترابط والتواصل، بين نسيجين محكمين في ثقافة الشيخ الأسير، هما: التقليد والتجديد.
لا تخفي الباحثة الحصيفة قلقها، على إندثار التراث، دون الوقوف على معالمه، ودون الوقوف على رجاله. فقد وجدت في ذلك هدفها، صاغته وأحكمت الصياغة. فما أضاعت الفرصة، حين جعلت من هذا الكتاب عملا أكاديميا موثّقا، لأن مثلها، حصافة وثقافة وعلما، إنما كان شأنها إماطة اللثام عن الكنوز وعن الآثار وعن اللقى. وقد لخصت لنا كل ذلك، في مقطع من مقدمة الكتاب، جعلته على ظهر كتابها، تنويها وتنبيها. تقول الباحثة:
«كُثر هم الرواد الذين تقدموا شعوبهم، حاملين مناهل المعرفة، ليخرجوا تلك الشعوب من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة.
وكُثر أيضا، أولئك الرواد في شتى حقول العلم والمعرفة، الذين أغفلت سيرتهم أو بخس حقهم، فنسي أمرهم، وحطّ من دورهم وقدرهم. ما عدا أولئك الذين يسعدهم الحظ، بعد مماتهم، بنفر من الباحثين، ينفضون غبار الزمن عن أعمال تلك الشخصيات التاريخية، ويسعون إلى إحلالهم المكانة التي يجب أن يحتلونها في تاريخ أمتهم وبني قومه. ومن هؤلاء كان علّامتنا الفقيه واللغوي والأديب، الشيخ يوسف الأسير».
يتألف الكتاب إذا، من خمسة فصول وملاحق متنوعة:
1- تحدثت أولا بأول عن العوامل السياسية للنهضة في القرن التاسع عشر، مثلت على ذلك بالحكم المصري لبلادنا، وما أتى به من نتائج. كما تحدثت عن أحداث 1860 الأليمة، وقيام متصرفية جبل لبنان. وكذلك عن حركة التنظيمات العثمانية، التي شهدتها بلادنا في ذلك الوقت. نراها تقول:
«قامت النهضة في بلادنا على كواهل رجال رواد عصاميين. صنعوا بأنفسهم وصاغوا أفكارهم الإصلاحية أو التجديدية، دون أن يكون أحد منهم متخرّجا من جامعة». ثم تتابع قولها: «والشيخ يوسف الأسير أحد رواد هذه النهضة وباعثيها، وله دوره الفاعل على صعيد اللغة والفقه الإسلامي، وإن لم ينكر أثره في حقول الشعر والصحافة والقضاء والتعليم».
2- تناولت الباحثة الرائدة، العوامل الثقافية والفكرية للنهضة في القرن التاسع عشر. فتوقفت عند الإرساليات الأجنبية وعند المدارس العثمانية وإنتشارها. وعند الزوايا والتكايا والمساجد. بالإضافة للحديث عن المدارس الرسمية وعن المدارس الخاصة. وذكرت كذلك بالجمعيات العلمية والأدبية وبدور الطباعة ودور الصحافة، وبالتيارات الدينية والفكرية، وبالجامعة الإسلامية وبتيار الرابطة العثمانية وتيار القومية العربية.
«ساهم المسيحيون من رجال النهضة في بث الفكر القومي العربي، فترجموا الإنجيل إلى العربية بمعاونة الشيخ يوسف الأسير. وعرّب الروم الأرثوذكس كنائسهم في بلاد الشام. وإستقل الموارنة عن روما. وأصبح لهم بطاركتهم اللبنانيون. وعمل المسيحيون على تحديث اللغة العربية. وطبع كتب التراث العربي». وتتابع قولها:
«فقد نشر بطرس البستاني معجمه الضخم باللغة العربية «محيط المحيط». وأصدر سبعة أجزاء من دائرة المعارف. ونشر أفكاره في جرائد «نفير سوريا» و«الجنة» و«الجنان. ودعا إلى تعمير لبنان واتحاد اللبنانيين».
3- إنتهت الباحثة من كل ذلك للحديث عن الشيخ يوسف الأسير، بإعتباره رائدا من رواد النهضة. بيّنت أصله ونسبه وولادته ونشأته وصفاته وأخلاقه وحياته العائلية وعلومه ورحلاته، وتابعت حديثها عنه، كذلك الأمر إلى حين وفاته.
«شق نعي الشيخ يوسف الأسير على تلاميذه وأصحابه من معاصريه. فأخذوا ينظمون القصائد، ويدبّجون المقالات في تأبينه، مشيدين بفضله على عصر النهضة، وبدوره في نشر العلم والثقافة، مسجلين آثاره ومآثره، مما تركه من مؤلفات ومقالات. وقد قام صديقه الشيخ إبراهيم الأحدب بجمع معظم ما قيل في تأبينه في كتاب، يقع في إحدى وأربعين صفحة، أسماه: «مراثي الشيخ يوسف الأسير».
4- تحدثت الباحثة عن شخصية الشيخ الأسير من جميع جوانبها المتعددة، مثل حديثها عن المعلم والصحافي، وعن الشاعر واللغوي.
«كان الشيخ يوسف الأسير، يشجع كل عمل أدبي أو فكر جيد، يبدعه أحد أصدقائه أو معارفه في جيل النهضة. ففي الثناء على الرواية المسرحية «أرزة لبنان»، التي ألّفها الأديب مارون النقاش، قال:
هذي رياض أثمرت/ فكاهة كالرطب
أم حكم قد ركبت/ في قالب من لعب
أعني به مارون/ من أبدعها بالعربي
 حق على نقاشها/ نقش بماء الذهب».
5- وتناولت في الفصل الخامس، أفكار الشيخ الأسير التي كان ينادي بها. ومثلت عنها بآثاره التي خلّفها لنا. وقد توسّعت في الحديث عن أفكاره في السياسة والإصلاح وفي الدين والمجتمع وفي المساجلات والمحاورات.
وإنتهت أخيرا لعرض آثاره ومناقشتها.
«كان الشيخ يوسف الأسير مسلما متديّنا وتقيّا ورعاً. وكان متعمّقا في المسائل الدينية والفقهية وغيرها. وشغل مناصب القضاء الشرعي والإفتاء بكل جدارة... فما عرف عنه أي تعصّب، ولا بدر منه ما يدلّ على كرهه للأديان الأخرى، أو إحتقاره لأتباعها. بل كان شديد الإنفتاح والتسامح».
وفي خواتيم بحثها القيّم، قدّمت لنا ملاحق، تنير جوانب مهمة من حياة الشيخ الأسير. فكان ذلك مسك الختام لعملها الرائد، الذي عقدت عزيمتها على تحقيقه، فجاء في أجمل فصول، وفي أحلى تنضيد وإخراج، بل في أجمل حلّة، يخرج بها كتاب. إذ أوردت صورا عن وثائق قديمة للشيخ يوسف الأسير، تفيد أن بعضا من قصائده كانت ترنّم في الكنائس، وأنه كان يترجم ويترجم له، وأنه كان على سعة عظيمة بالعلوم والآدب، وأنه إلى ذلك كله، كان على خُلق عظيم.

 أستاذ في الجامعة اللبنانية