25 تشرين الأول 2023 12:00ص العطر المزيّف

حجم الخط
نموذج في التضليل، هو العطر الكذوب،  العطر المزيف. أعرف دكاكينه، أعرف باعته، أعرف بلد المنشأ، أعرف المروّجين له، أعرف المستهلكين المضللين، والمستهلكين العارفين، و المستهلكين المقتنعين.
حوانيت صغيرة، هي دكاكين العطارة المزيفة، باعتها من نوع لصوص الوقت. يرصدون المارة، يرصدون زحمة الأقدام، يناورون كثيرا أمام أبوابهم. يتابعون الزبائن في الشوارع الضيقة، يحشرونهم هناك، ويبدأون معهم لعبة المتاجرة. يساومون على الأصول، يهتكونها، كما تهتك الأعراض، كما تهتك البلاد، بجميع ألوان المساومة. تكثر العروض، ترفع الأسعار والأرقام، تلامس اللامعقول، ثم هي تكرّ مثل فقاقيع الصابون، تنخفض كثيرا، حتى تصبح تافهة.
تزييف العطور، مدرسة قديمة في التجارات الرخيصة. هي من نوع سرقة الأموال من الجيوب. هي من نوع الغش والخديعة. هي من نوع التضليل، عن الوصول إلى الحقيقة.
تزييف العطور، هو أشبه ما يكون بتزييف الزيوت، هو الخلط بين الوهم والحقيقة. هو الصنعة الكذوب، والعيش فيها، ريثما يمرّ الوقت وتنجلي الأمور، تتعرّى أمام الأبصار والعيون، وتنكشف الخديعة.
العطر المزيف، هو نوع من المناورة، هو نوع من الحديث الكذوب، هو نوع من الخديعة، له رجاله المتخصصون، له جماعاته، له أحلافه، له جهاته، له دوله، يصنعون الأكاذيب بأعينهم، يريدون للزيف، أن يصير حقيقة، يريدون للزيف أن يحتل مكان الحقيقة. يمضون دهرهم في جولات من الأكاذيب، في مناورات من التضليل، في جبهات، في ساحات.. كلها تعيش على الخديعة، كلها تعيش على أوهام الحقيقة.
صالات، شاشات، إذاعات، بيانات، تصريحات.. كلها من نوع العطر المزيف. كلها من نسل العطر المزيف. كلها من نسل الزيف، من معجنه، من مخبزه، من أيدي صنّاعه وتجّاره، والناس لا زالوا يفتشون منذ أول دهرهم، عن العطر الحقيقة.
الناس يسألون اليوم، في العطر، عن نسبة الحقيقة، عن طول وقت العطر على الوجوه، على الأيدي، على الأنوف، على الثياب، على جدران الغرفة، وفي الهواء الجاري في الحديقة. الناس يسألون اليوم، عن منسوب الدماء، وعن منسوب الحقيقة التي تجري في الدماء، حين تشتدّ الأزمة، حين تشتدّ الثورة، حين تشتدّ الحرب، وحين يطلق العنان لرصاص الإبتهاج في الهواء، وحين تعلن الإنتصارات، وحين تستعار لها الأسماء، التي لا تليق بها.
الناس يسألون في بلادي، عن اليوم الكذوب، عن الفجر الكذوب، عن الحبل الكذوب، عن النصر الكذوب. الناس مفجوعون، هالهم العطر المزيف، لأنهم يبحثون عن الحقيقة.

أستاذ في الجامعة اللبنانية