بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تشرين الثاني 2022 12:00ص الفساد عندما يعمُّ العام والخاص

حجم الخط
كل ما يُحكى ويُشاع، كل ما يُكتب ويُقال، كل ما تنشره وسائل الإعلام: المرئي والمسموع والمكتوب.. كل ما يترنّم به الأصدقاء قبل الأعداء وقبل الخصوم، عن فساد الوزارات في ذاتها، وفي إدارتها للأزمات، وعن فساد السلطات، وعن غياب المراقبة والمحاسبة، وعن ترهّل القطاعات العامة قبل الخاصة، وعن توحش الدولة وأصحاب الدولة، وأصحاب القرار، قبل الدولة، وبعد الدولة.. كل ما يُحكى ويُشاع ويُقال عن: تمكّن الخراب من البلاد. وعن تمكّنه أيضا من نفوس الحكام. كل ما يُحكى، عن أن الدولة في لبنان، لم تعد لها قائمة تقوم، ولم يعد يرجى منها أي خير، ولم يعد عندها قطرة ماء، وأنها صارت في عداد الدول الفاشلة.. كل ما يُحكى عن ذلك جملة، إنما هو صحيح، ولا يحتاج إلى تقديم البراهين والشواهد، والإثباتات والتأكيدات، فهو ماثل للعيان.
لكني حقيقة، أريد أن أبدأ بالاعتدال، وبالإنصاف، وبالمقدار نفسه: من الأسئلة المزدحمة في رأس رأسي، وفي عمق نفسي، عن هذا الفساد، عن هذا الانحطاط، عن هذه الأخلاق اللبنانية الفاسدة والتالفة، والكريهة والمجرمة بحق الإنسان، عن هذة التربية الفاشلة، عن هذه الثقافة المهترئة، الرخيصة، التي تطغى على حياة، وعلى تربية وعلى تعليم الناس، حين يكونون في بيوتهم، وحين يخرجون منها، حين يكونون في سياراتهم، وحين ينزلون منها، وينزلون عنها - للفرق الشاسع بين من ينزل من السيارة ومن ينزل عن السيارة -، حين يكونون في الأسواق وفي المحال.. حين يتوسطون الأماكن العامة.. حين يأكلون.. وحين يشربون.. وحين يعملون.. وحين يتنزهون.. وحين يخرجون إلى المقاهي العامة، وإلى المتنزهات. أريد أن أسأل هؤلاء الرجال، أريد أن أسأل هاتيك النساء أيضا، لماذا كل هذا الطيش الخلقي عندهم: لماذا لا يحترمون المواعيد؟ لماذا لا يخلصون الصداقات؟ لماذا لا يصدقون الأقوال؟ لماذا لا يوفون بالتعهدات؟ لماذا لا يكونون على مستوى عالٍ من الرقة والأخلاق والإحساس، على مستوى عالٍ من الكرامة الشخصية، ومن الكرامة البلدية ومن الكرامة الإجتماعية، ومن الكرامة العائلية والدينية والقومية والوطنية؟ هل كانت الدولة لتنهاهم عنها؟ هل كانت هي من ظلال الدولة، حين يكون كل شيء عند الأفراد والمجتمعات، في ظلال الدولة؟!
أريد أن أسأل، كيف تدير الأخلاق الطائشة حوانيتهم؟ كيف يدير الطيش أعمالهم؟ كيف يديرون بيوتهم وشؤون عائلاتهم بلا مسؤولية؟ وما إذا كانت إدارتهم أرقى من إدارة الدولة الفاشلة أو أن بينهما بينونة بائنة؟ تلك الدولة التي لا يملّون من إنتقاد دورها، لا في الليل ولا في النهار.. أريد أن أسأل الناس: مجتمعات وأفرادا، إذا ما كانوا أرقى في تعاملهم، وفي جميع معاملاتهم، من دولتهم هذه التي لا يملّون عن نعتها بالدولة الفاسدة، بالدولة الفاشلة، بالدولة الساقطة، بكل رجالها.. من أعلى الهرم حتى أحذية الخدم. تلك الدولة، التي لا تقدّم لنا إلا أعلى الدرجات من النموذج الفاسد والفاشل والساقط، إلا أعلى الدرجات من النواب والوزراء الفاشلين الفاسدين: وخصوصا منهم: النواب والوزراء الحديثو النعمة في النيابة والوزارة، الذين ليست لهم أدنى علاقة برتبة الإنسان، بكرامة الإنسان، بكرامة المواطن العادي، في سائر البلدان.
ولكي لا نظل ندور في العموميات، وفي تسجيل النظريات، أريد أن أسأل الناس، كيف يكون لهم، إذا ما خرجوا إلى نزهاتهم، أن يرموا أشياءهم التالفة، حيثما كان، تحت الشجرة التي استضافتهم بزينتها، وتحت العريشة التي ظللتهم بأوراقها، وعلى جانبي الدرب التي كانت ترحب بهم، وتفرش الأخضر الزمردي لهم على جانبيها، وتطلق جوقة حساسينها لإستقبالهم من أعلى أشجارها، من أعلى أحجارها.. فأما هؤلاء الناس من اللبنانيين، فيحسبون كل ذلك مسخّرا لهم، وليس عليهم أدنى واجب، لإحترام الطبيعة، لكي يردّوا التحية بأحسن منها، فيردّون مثلا على تحيتها الطبيعية الطيبة الراقية لهم، برمي البقايا، من أخلاقياتهم اللبنانية الرومانسية الحالمة. يرمون بقاياهم، وهم يحلمون، وهم يعبثون، بكل مجون، وبكل عبث، وبكل أخلاقهم التافهة التي يعبّرون بها عن أخلاقهم اللبنانية الرومانسية، على وجه الأرض التي رحمتهم، التي حيتهم. ويتعالون في نفوسهم عليها. يرمون أغراضهم شذر مذر، بعد أن تعالوا عن الواقعية الصامتة بأحلامهم الصاخبة، بأخلاقهم اللبنانية الرومانسية الخائبة.
تراهم إذا ما ذهبوا إلى الشاطئ، لوّثوا الشاطئ بأخلاقهم. تراهم إذا ما زاروا الينابيع للبركة، لوّثوا الينابيع الطاهرة، رموا في عيون مائها من لجين صافٍ، بقايا مأكولاتهم وبقايا أكياسهم، وما خلّفوه وراءهم من أغراض تالفة.
كيف يستحسنون صنع المشاحر في الغابات، وهم يقدسون ويباركون مع ذلك، الغابات العذراء؟ كيف يشعلون النار في اليابسة، ولا يلتفتون إلى الحرائق الناشبة؟ كيف يلوثون البيئة بالزيوت وببقايا المعامل وبالنفايات السوداء؟ كيف يصبون مجاريرهم، في مجاري الأنهر العذبة المياه؟ أي الناس هم هؤلاء الناس، الذين ليس لديهم، أدنى كرامة، أدنى غيرة، أدنى درجة من درجات الإحساس، حين يلوثون محيطهم المنزلي، حين يعتدون على جوارهم الطبيعي، من شجر وتربة وأزهار، وشمس وماء وهواء، على جوارهم الطبيعي، من دروب فرعية ورئيسية، ومن مساحات عامة، ومن زوايا للعموم، من للساكنين والعابرين والزائرين على حد سواء.
على أبواب فصل الشتاء، كل المجارير مسدودة بالفضلات، بل بـ«أفضال الناس». فكل كيس في مجرور، أراه يمثل صاحبه، في الإنسداد الخلقي، قبل مساهمته للإنسداد في القنوات. كل السواد الذي في الشوارع، يمثل خيرة وجوه الناس، من عليّة القوم، الذين لهم متاجرهم ومنازلهم. الذي يمرون كل يوم، في تلك الشوارع التي كانت فيما مضى زينة، وأصبحت على أيدي هؤلاء قذرة، في معادلة طبيعية من قذارة أيديهم، التي اقترفت رمي القاذورات في المناور، في الساحات، في الطرقات، في الأبنية الهالكة، وأمام الأبنية الهالكة، ومن النوافذ، وأيضا من نوافذ السيارات.. وهذا أعتى أنواع الأخلاق اللبنانية الرومانسية، حيت تمرُّ بك سيارة فارهة داكنة الزجاج، «مفيّمة»، ذات أرقام مميزة، ثم يفاجئك من فيها برمي عبوة أو قشرة أو عقب سيجارة مشتعلة على وجهك، فتنزل عليك، كما على العشب اليابس، ألسنة من دخان ومن نار.
أنهار لبنان كلها ملوّثة بأيدي هؤلاء الناس، الذين يفيقون على فساد الدولة ويغفلون عن فسادهم الشخصي، عن فسادهم العام والخاص.
سماء لبنان كلها ملوّثة، بسبب من دخان العوادم، في المنازل وفي السيارات وفي المحترفات وفي المعامل. كذا أيضا، مزروعاتهم الملوثة، جراء استعمالهم الكيماويات الفاسدة المسرطنة. وكذا المبيدات السامة التى لا يعلنون عنها. فما بالكم بنفايات المعامل والمستشفيات؟! فما بالكم بنفايات المنازل في الطرقات؟! فما بالكم بالذهاب إلى الصدقات بكل فاسد وتالف ورخيص؟!
ظاهرة خطيرة اليوم في الشوارع الرئيسية، في الشوارع السياحية، أمام علب البنوك وأمام أبواب المتاجر النفيسة، يستقدمون المتسولين الصغار والمسنين، من العجائز والمرضى والمعوقين، يضعون لهم مفارشهم، ويتبصبصون عليهم طيلة النهار، ويتقاسمون الغلال معهم في المساء. ظاهرة خطيرة يديرها هؤلاء الأشخاص الذين يعيبون على الدولة فسادها، وأنها استجلبت العار الشنار، جراء استقبالها الهاربين من الحروب. وينسون في الوقت عينهم فسادهم الخاص، فسادهم الشخصي، الخصوصي الأخلاق، والذي يعبّر عن إزدواجيتهم في رؤية الفساد.
كنت هذا الصباح في زيارة شخصية لأحد الأصدقاء، في حرم الـ«AUB»، قرعنا الشجى بالشجى، والقنى بالقنى، من هذا الواقع الأليم الذي بدأ ينزل من الدولة على الأفراد: أخذوا يقلّدون مثل القردة، الدولة في الفساد. يزحف الناس على الفساد المتساقط من ينابيعه، من مكاتب الدولة، ويحمله الناس إلى بيوتهم، إلى منازلهم، إلى أبنائهم، حتى صرنا نحسبهم جميعا من عشيرة الفساد.. حتى صرنا لا نرى في أخلاقهم اللبنانية الرومانسية، إلا بقايا من ريح الفساد، من نتن الفساد، فلا نعود نأبه لرومانسيتهم الحالمة ببناء الدولة، ونحن لا نرى على أيديهم الفردية الشخصية، إلا الأكفّ الملوثة بالفساد.
من رصيفي شارع بلس، إلى رصيفي شارع جاندرك، إلى «اللارصيف» في شارع المكحول، إلى رصيفي شارع عبد العزيز وشارع الصيداني، وشارع المقدسي، وصولا إلى شارع الحمرا، وشارع غاندي البائس وشارع السادات -عفوا مكب السادات- لا ترى إلا بقايا السادات على الأرصفة.
أرى كل يوم السيد نبيل الجسر، رئيس مجلس الإنماء والإعمار، متأبطا عقيلته، يقفز من فوق تلال النفايات، يخشى أن يتزحلقا على الأرصفة السوداء.. عزمت في سري، أن أحضر رفشا ومكنسة وسلا، وصهريج ماء، وأفاجئ بذلك، سعادة محافظ بيروت. وأفاجئ أيضا سعادة رئيس بلدية بيروت. وأفاجئ، صاحبي الأستاذ نبيل الجسر. وأدعوهم جميعا ليكونوا على رأس حملة التنظيفات، حتى نحفظ للـ«AUB» الجوار الحسن، وأضع نقطة بالنظام، على برنامج جمعية «حسن الجوار» الذي تديره الأستاذة منى حلاق. أعرف أن جميع الذاوات الذين ذكرت، على إستعداد للمشاركة في الحملة، فهل تستجيب لها، سعادة الأستاذة منى حلاق؟.. قرعنا الباب، فلننتظر إذن قليلا، لنسمع الجواب.

أستاذ في الجامعة اللبنانية