28 تشرين الثاني 2023 12:00ص المال والبنون

حجم الخط
كنت في حياتي كلها، أسير هذه الآية القرآنية الكريمة: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). فقد عشت طفولة قاسية، جعلتني في سوق العمل، وأنا دون العاشرة. كيف لا، وأخواتي كلهم أصغر مني، وهم يملأون حجرات البيت جميعا. يملأون الدار، وينتشرون حوله مثل الصيصان الصغيرة، تبحث في جميع النواحي عن الحب، عن الطعام.
تحسّست مسؤوليتي باكرا. كنت أخرج إلى الحقول، كنت أخرج إلى السوق، ثم آتي إلى البيت، مثل رجل صغير، مثل عصفور، في فمه حبة قمح.. مثل رجل بالقوة، لم يبلغ العاشرة بعد.
كانت أسرتي تعظم حولي. وكان نشاطي يزداد، كلما إزدادات الحاجات. كان أخوتي وأنا، حكاية «أفواه وأرانب». وكنت أرى لأخوتي الأطفال، كمسؤول، لا يتهرّب من المسؤولية. لا مهرب له من المسؤولية. كنت أسمع في البيت: «اللي خلق علق». ولهذا كنت أندفع في دائرة العمل، في دائرة النار، في الإبحار.. ولم أفكر يوما، على صغري، أن أتراجع إلى الوراء. كان شعاري دائما: ضرورة إقتحام الأسوار.
كنت في البيت أيضا، كما في المدرسة، كما في حياتي العامة التي تخالط المجتمعات، أصغي بشغف عظيم للآية الكريمة التي تقول: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). فقد إتصلت تلك الآية العظيمة بنفسي إتصالا محسوسا ملموسا. كنت أعشق أن أعود إلى البيت، لأنفح أهلي بالمال. لأضع بين يدي من أعشقهم، جنى يومي، جنى الأمس والغد. كان ذلك أجمل شيء عرفته في حياتي. ولهذا كانت أسرتي، ترميني بحاجاتها الكثيرة، حتى أكاد أختنق بها. كانت تتكاثر عليّ، تكاثر السهام على خراش.
لم تكن حالي بين أبنائي بأفضل مما كنت بين أخوتي. كانت حاجاتهم تشتد عليّ. فأحفر في الترب، بحثا عن حاجات أبنائي. كنت أعود كل يوم، أتذكّر حكمة العقلاء القدماء، وآية العلماء الفقهاء: «اللي خلق علق». و(المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ولا أجد محيصا، من متابعة سيري في دروب الحياة.
وكلما تقدّمت سنّي، كلما شعرت أني بحاجة للتذكّر. صار أدب التذكّر، من حاجاتي الثقافية. خصوصا بعدما، صرت أعيش وحدتي. ألازم نفسي بنفسي. أتأمل يومي وأمسي. وأسرح نظري في الآفاق: طار البنون. وتفرّق المال تفرّق العشاق!
أذكر أن أول قصة قصيرة نشرتها وأنا في السادسة عشرة من عمري، في مجلة دار المعلمين بطرابلس، كانت بعنوان: «صرخة معول». كان شعاري يومذاك رفع القهر عن أسرتي. واليوم أعود إلى معولي الصغير، لأستبدله بالقلم العريض، بالقلم الكبير. وتظل العودة إلى أدب الذاكرة، خير مواساة لسنّي: «اللي خلق علق». وتظل الآية الكريمة: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)، مما يدفئ قلبي ومشاعري، وما تبقّى لي من مسيرتي، سحابة عمري.

أستاذ في الجامعة اللبنانية