بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 أيلول 2021 12:00ص المهاجرون الصغار

حجم الخط
مثل الدموع الصغيرة، تنتثر على خد الأرض، ينتثر المهاجرون الصغار.

تذرفهم عيون الأمهات والآباء، والأخوة والأخوات: يشعرون أن بعض حبات القلوب، انفرطت فجأة، انقطع بها الخيط، وصارت تقفز قفزات صغيرات، لتستقرّ أخيرا على الدرب.

هكذا كنت أشعر، كلما رافقت أحدا منهم، إلى محطات السفر وبوابات المطار.

كان الفضاء يضيق بنا، أمام عناق الفراق. كنت أشعر، أحدا يطير، وأحدا يغور. أعزم: أن أرض المهاجر، قلّما ردّت إلينا المهاجر. أزعم: أن الفؤاد، خرج من باب صدره، ولا يستطيع العودة بعد، من ثقبه.

القلوب المثقوبة بالعناء، لا ترد عادة على حالات البكاء.

تدفع بالمهاجر الصغير عنوة، وتمسح عن الخد دمعة الأرض.

أحدا، أحدا، كنت أودعهم في المطار. كان العمود الذي يرفع سقفه، يشفق على حالي، مثل طفل صغير. يلتصق بي، حتى أهدأ، ولا يبتعد عني، قبل أن أصير قادرا على إمساك يدي، ونسيانها عندي، بعدما شاهد مني، كيف طارت يدي.

كان نسيان أكبادنا عادة يومية.

نعود إلى طقس البكاء، كلما عادت بنا الذاكرة إلى أرض المطار.

كان عمود المطار ، إختراعي، لساعات الوداع. كلما عدت إليه، عاما بعد عام، أشعر أن الدموع قد أنبتت حوله، حوضا من زهر الدموع، يخرج بيننا قوس قزح، ثم يأوي منكسرا، يذوب دما ساخنا، لحما ساخنا، دمعا ساخنا، فوق الرخام، بعيد الفراق.

المهاجرون الصغار لا يرحمون أنفسهم، ولا يرحمون أهلهم.. يأوون إلى أعباب الغيوم، ينسجون منها شالات وعادات وحكايا وحكايات، كلما سافرت غيمة بين أنواء العيون وخيطان السماء.

خيط ضئيل، ضئيل.. نسيج جناح نحلة.. يرى في سكون المودعين، وهم يودّعون أبناءهم: خلايا جديدة لأرض بعيدة.. تؤوب إلينا بعشقها.. فلا نعرف اللون ولا نعرف الطعم.. ولا نعرف النوم، إلا بطعم البكاء.

المهاجرون الصغار، نودعهم في بطون الغيوم، فتمتصهم.. تروي بهم أرضا بعيدة. نمدّ إليها أيدينا، فترتد سريعا إلينا.

المهاجرون الصغار، بذار دموع تروي رمالا.. تروي ترابا.. تروي صخورا.. فتزهر الأحجار، ماسات للبلاد البعيدة.

سألت ماسة ضوأتني فجأة:

لماذا الدرب أقفلت؟

غادرتني مثل دمعة:

ماذا تفعل الماسات، حين تعود للأرض الخراب.

سألت عودا ند عن أضلعي:

لو تحمل زهرك، وتنثره على بدني؟

عِيّ جوابا.. بكى من شدّة العيّ.. دلّني زهره على ألمي.

المهاجرون الصغار، أفئدة تتطايرت منا، في برهة إنفجار.

المهاجرون الصغار، أشدّ لوعة منا، لكن أرضهم طارت مع نعالهم، صنعت لهم عتباتهم، صنعت لهم غربتهم، صنعت لهم قاماتهم، حيث قاماتهم صارت على قدر المقام.




أستاذ في الجامعة اللبنانية