27 تموز 2023 12:00ص المير طارق آل ناصر الدين في «رباعيّات الحكّام»: إذكاء المشاعر السياسية

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
يتقدم الشعر بالعمر، مثله مثل صاحبه، يزيده العمر تجربة، يزيده خبرة، يزيده ألقا، يصير مثل عظيم قوم، كلما تقدّم الزمن به، بعبقريته، كلما إزداد مهابة، وإزداد جلالا، وإزداد عظمة وكبرياء.
«إلى الشهداء أهديكم دمائي/ وقلبي يا أساطير الفداء
إلى الحكّام أهديكم هجاء/ وأعرف كم أقصّر في هجائي.
إلى لبنان أهديه حياتي/ ليبقى أرزة قرب السماء
إلى الأطفال أهديكم دموعي/ فقد صرتم بلا خبز وماء».
لا أتحدث عن عبقرية الشاعر ها هنا، إنما أتحدث عن عبقرية الشعر، عن عبقرية شعر الشاعر. ذلك أننا كلما تداولنا قصائد المير طارق آل ناصر الدين: «رباعيات الحكّام. دار الخلود. رأس بيروت - قريطم: 100ص. تقريبا»، كلما بهرنا الشعر، بهرتنا مهابته، بهرتنا مهابة شعره، بهرنا سيفه على الرؤوس الكبيرة، عندما الشعر عنده، (تجاوز مقدار الشجاعة والنهى).
«يوضاس في النار لم يعثر على شبه/ نادى العفاريت لبّاه أبو لهب
وقررا حمل لبنان مذ إلتقيا/ إلى الصليب ليغدو عبرة الحقب
أموالنا سرقت.. غاباتنا إحترقت/ أرواحنا أزهقت بالنار واللهب
جهنم كلما إحتاجت إلى حطب/ حكّامنا اليوم هم حمّالة الحطب».
عاد الشعر ليعلن على الملأ، تماما كما بدأ: الأمر لي. نصب قبته من أدم أحمر، كما قديما، للعكاظيات. لمعت على حده الظباء، وسال لعاب المنيّة. إستدعى الفاسدين والمقصّرين والمترددين والعاجزين.. شهر نصله بين عيونهم، شهر نصه فوق رؤوسهم، بكل جلال الشعر، بكل مهابته، بكل سيفه، بكل مقصلته.. تماما كما يفعل الرجل العدل، حين تتكاثر عليه دعاوى القوم، يجعل في حد الشعر، حد السيف، (الحد بين الجد واللعب).
«وأعرف في حكومتهم وزيرا/ حقيرا سارقا وبلا ضمير
فمن يبغي له وصفا جديدا/ يليق بمثل منصبه الخطير
فعد لتراثنا شعرا ونثرا/ وما قال الفرزدق في جرير
أضف لغة العواهر والزواني/ ولخّصها وقلْ: يا إبن الوزير!».
لم يعد شعر المير يتهاون مع الحكّام، كما في السابق. لم يعد يناور أو يساوم. صار الشعر في تجربته المتأخّرة عن سائر تجاربه، عن سائر التجاريب السابقة، ميّالا لإصدار الأحكام العادلة ولو كانت قاسية، دون خشية، دون تردد، دون حسابات سياسية صغيرة أم كبيرة، دون حسابات الربح، أو الخسارة.
«في مجلس النواب في لبناننا/ أعجوبة فاقت مدى الأذهان
إن جئت تبحث في صحيح ميوله/ أو ما يمثله من البلدان
غرب على شرق على ترك على/ فرس على صين على يابان
لم يبقَ من أمم الخليقة كلها/ من غير تمثيل.. سوى لبنان».
شعر شبَّ عن الطوق، ربما عصي صاحبه، فلم يعد يسمح له بتشذيبه، بتهذيبه، كما العادة. صار شعره شعرا صريحا. صار في الرباعيات، «رباعيات الحكّام»، من نوع الشعر الصراح، تماما مثل اللبن الصراح، من ضرع الناقة مباشرة، من روح الشاعر مباشرة، من جرح القلب مباشرة، من عصارة اليدين والعينين، والموت الذي يعاند الموت حتى الشهادة.
«ويا بلد العجائب يا بلادي/ وفئران السياسة فيك زادوا
تناطحنا.. تباطحنا قتلنا/ قتلنا.. كدت يا شعبي تباد
وجاء الوحي... ممن لست أدري/ تعانقنا وغادرنا السواد
توحدنا وصار لنا سريعا/ زعيم واحد وهو الفساد».
ما قرأت في «رباعيات الحكام» الصادر حديثا، للمير طارق آل ناصر الدين، إلّا تذكّرت إبداع الجاحظ في وصفه «آكل الرؤوس». لا يقل الشاعر إبداعا عن الناثر، وهو يجمجم الرؤوس، يمش عظام الجمجمة مشا، يتلذذ بها، وهو ينكتها طرقا على دفة الحكم، على دسته. ينخرها، يسيل منها الدم الأسود الناشف مثل حبر قلم، نشفت ريشته بمرور الزمن، مثل رجل سياسي، نشف عقله السياسي، نشف ضرع السياسة العذب عنده. تراه يبكت العروق الناشفة، يطرقها من جميع الجوانب، وهو أشهر، من يعرف تطريقها، لأنها صنعته. أليس هو «النجم الطارق»؟ أوليس هو الطارق؟! فتطريق الرؤوس صارت صنعته، بعدما بلغ به الشعر أشدّه، وبعدما بلغ الشاعر والسياسي: المير طارق، سن الرشد، وصار يحنّ إلى بيت الشاعر القديم: «إن الثمانين وبلغتها/ قد أحوجت سمعي إلى ترجمان».
«يا ليت مطرقة النبي تزورنا/وترى الذي فعلت بنا الأيام
لقريش أصنام تغيّر شكلها/ أما عن المضمون فهو تمام
هبل تقنع كاهنا في قومه/ واللات شيخ والمناة إمام
حجرية بشرية ما همّنا/ أشكالهم فجميعهم أصنام».
رباعيات الحكام، أشبه بجعبة من نبل. نصب الشاعر أخيرا، رؤوس الحكام جميعا، الذين عاثوا بالبلاد فساد، خصوصا في هذا المنقطع الأخير من العمر، وإتخذ وضع الرامي الماهر القرم إلى اللحم. أليس هو الراعي نفسه عند مارون عبود، الذي إمتشق مقلاعه، وصار يصوّب حجره على التيس الأرعن، فبدا في برهة جوعه، في برهة عبقريته، في برهة شعره، شديد القرم إلى اللحم.
«أنطلب من فتانا أن يساوم/ وأهلوه جياع وهو صائم
أنطلب من قضاة عينوهم/ عدالتنا وقصر العدل نائم
وكنا نتحف التاريخ دوما/ بقديس وفنان وعالم
وقد وقف الزمان مذ إنتقلنا إلى زمن القلانس والعمائم».
المير طارق، في برهة «رباعيات الحكّام»، يتسيّد على الحكام الفاسدين بشعره، بعدل القضية التي أطاحوا بها، تحت عينيه: نهبا وسرقة وإعتداء وتفجيرا وسمسرة وخيانة موصوفة، لقضايا الشعب. فهو في هذه الرباعيات، «على قلق، كأن الريح تحته». فلم يتهيّب، أن يضع إصبعه في عيون الحكام، يدلّهم على جرح قديم تسببوا به للشعب.
«وتشيطن الأتباع حين تمذهبوا/ زمرا من التكفير والتلقين
هي نكبة الأديان في كهنوتها/ ومصيبة الدنيا رواة الدين».
الشاعر طارق آل ناصر الدين، يوقد في ديوانه الأخير، جذوة الشعر، يضرم ناره، يذكّي عوده في العقل السياسي، في الضمير الشعبي، في العمل السياسي، في التجربة السياسة. فما عاد يهادن.. فما عاد يعف. ولهذا ربما، بدا في «رباعيات الحكّام» ناشطا في حقل إذكاء التجربة السياسية بنار الشعر، يريد صقلها في أتون الروح، حتى تستطيع إكمال مهمتها: سياسة نظيفة من الغشوش التي لحقت بها وآذتها. إنه رائد إذكاء المشاعر السياسية بإمتياز.
«وبعض قضائنا يقضي علينا/ ويدخلنا عصور الإنحطاط
قضاة طوائف عاثوا فسادا/ وقد شذ الجميع عن الصراط
فلا الدستور يعنيهم كثيرا/ وليس لهم به أي إرتباط
وذا قاضي التخلّي قد تخلّى/لتفتك فيه (قاضية البلاط)».

 أستاذ في الجامعة اللبنانية