بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 حزيران 2022 12:00ص بطولات القدرة والتحمّل

حجم الخط
أعظم ما يمتحن به إنسان، هو أن يكون مصابا في عافيته، لا من الناحية الصحية، بل من ناحية «القدرة والتحمّل». ذلك أن تجربة الإنسان في حياته كلها، إنما تتمثل في هاتين النقطتين المركزيتين: القدرة والتحمّل معا في آن. فلا يمكن تصوّر فاقد القدرة، كيف يمكن متابعة الشوط، مثل حصان يسابق للغلوة. وكذلك لا يمكن لنا أن نتصوّر، كيف يستطيع المرء أن يواجه أعباء الحياة، وهو بالكاد يقدر على أن يحمل نفسه، في درب طويلة، كلما خطا فيها شوطا أو بعض شوط، رَمَتْ عليه بالأوزار، حملا بعد حمل، ووزرا بعد وزر، وعبأ بعد عبء، حتى لتكاد نفسه تسقط من أول الدرب.
من أعمال البطولة، أن يحافظ المرء على قواه كلها، فلا يضيع منها شيئا على نفسه. ولست بصدد الحديث عن ضرورة المحافظة، على قوته البدنية، من باب المحافظة على الصحة والعافية، وعلى ما عنده من قدرة، بل من قدرات، وعلى ما عنده من مقدرة أيضا، مخبوءة في شخصه، يلجأ إليها وقت الحاجة، لما يسمّى «شحذ الهمم»، من أجل الإثبات، من أجل الثبات. لأن ذلك من المبادئ الأساسية، للوقوف في وجه الصعوبات، وللتصدّي أيضا، لما يمكن أن يقسو عليه، في درب الحياة. ولكنني أريد للمرء أن يحافظ على قواه العقلية كاملة، أريد له أن يحافظ على قواه النفسية، أريد له أن يكون ذا قوة، عند مليك مقتدر. فما بالكم من ضرورة المحافظة على قوته المجتمعية، وعلى قوته السياسية، وعلى قوة حضوره، في عمله المهني، وفي عمله الإنساني والوطني والقومي.. آنئذ يكون قد صاغ بكل جدارة قوة مكانته في الأسرة وفي العائلة وفي المحيط الذي ينتسب إليه، ويتواجد فيه. يكون قد صاغ قوته، في حضوره الفاعل في العالم، وفي الحياة، إنطلاقا من مقولة، أن «الميت وحده فاقد القوة». ولا يمكن لنا تصوّر إنسان حيّ، بلا أدنى مسكة بقوة تشحذه: طاقة وحركة وفاعلية، وتأثّرا وتأثيرا.
قرين القدرة عند الإنسان، إنما هو التحمّل. هذه الطاقة الكامنة في أعماق أعماقه، والتي تجعله يتحمّل الأذى والأذيّة، بنفس راضية مرضية. هذه الطاقة التي تجعل الإنسان يعضّ على جرحه بكل كبرياء، يخوض في شتى أنواع التجاريب، يتحمّل الخسائر المادية والمعنوية، بروح عالية، يصبر على الشدّة، يكابدها بنفس طويل، دون أن تهزّ أركانه، ودون أن يهتز لها: دون أن تصيب منه مقتلا. فأهم وجه من وجوه التحمّل، هو الصبر على المكاره، الصبر على الآلام، الصبر على الشدّة.. حتى ليقول لصبره، إنه أشدّ من الصبر على الصبر.
لبنان من أكثر البلدان في العالم التي نال شعبها، «بطولات القدرة والتحمّل». وَسَم بهذه البطولات، في مراحل التاريخ كله، فما وهن ولا إستسلم، لما تعرّض له من شدائد; تعرّض للغزو، تعرّض للاحتلال، تعرّض للفتن، تعرّض للإنقسام، تعرّض للذبح: عرف جميع ألوان المجازر، فما وهن ولا هان. تعرّض للتهجير، ذاقه في الداخل، وذاقه في الخارج. وكانت السنون، تمرُّ عليه حولا بعد حول، يعدّ أيامها وأسابيعها وأشهرها وفصولها السوداء، يحصي شهداءه بصمت، يمضغ مرارة القتل والتهجير والتدمير، دون أن يفتّ ذلك من عضده.
شعب لبنان من أقوى الشعوب في العالم شكيمة، لا ينام على إهانة، ولا ينام على ضيم. من أقوى الشعوب إقتدارا. من أقوى الشعوب قدرة، لأنه لا يضيّع قوة من قواه العظيمة التي هي سر تميّزه وتفرّده بين شعوب العالم. تشتدّ أزماته عليه، فيواجهها ولا ييأس من مواجهتها، مهما إشتدّت القوى القوية عليه. لبنان بكل تنوّعه المحسد عليه، لا تنقصه القدرة، بل تنقصه القوة، فهي اليوم عند الدول العظمى، وهي التي بيدها أمور الحسم في السلم، كما في الحرب. وأي كلام آخر، هو مردود على أصحابه.. وهو بالتالي «تغميس خارج الصحن»، وهو من نوع «الضحك على الذقون».
لبنان وشعب لبنان، من أعظم الشعوب، ومن أعظم البلدان، تحمّلا للأخطار. طاقته في التحمّل قديمة للغاية. شقّ عباب اليم وسط العواصف الهوجاء، مشى إلى أقصى الأرض، يطلب الرفعة والعُلى والسيادة، ويدفع ثمنها غاليا: مالا وأرواحا. فلا تثنيه الشدائد، ولا تفلّ عزيمته، ولا تتنقص من مكانته، بين الأمم، حتى ليبدو أنه «أجلّ وأعظم».
بطولات القدرة والإحتمال، هي شهادات العالم بلبنان، وبشعب لبنان.. خاضها بكل شجاعة.. وخوض فيها. وهو لا يزال يخوض أعظم تجاريبه اليوم، وينال عليها الشهادات تلو الشهادات، بعدما جاوز الظالمون المدى.

 أستاذ في الجامعة اللبنانية