بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 كانون الأول 2023 12:00ص تحت ظلال إسطنبول

حجم الخط
حين زرت إسطنبول مؤخرا:(8/11/2023)، عرفت من دليل السياحة الدينية هناك. الدليل الموكل بنا، أن إسطنبول، هي القسطنطينية. وكانت عصمة الدولة البيزنطية. وأن القسطنطينية ذكرها «سيدنا محمد في عصر الدعوة الإسلامية. وأثنى على من يشارك في فتحها. وهي تسمى اليوم أسطنبول.  وأنها تعرف ب «مدينة الصحابة»، بعد حصار القسطنطينية لخمسة أشهر في عصر المد العثماني. ومن  ثم فتحها على يد السلطان محمد الفاتح العام 1453م.
 ذكر لنا دليلنا السياحي كذلك،  أن عددا جما من صحابة النبي، يقارب28 صحابيا كان لهم قصب السبق إليها، قبل  السلطان محمد الفاتح. وكانوا قد شاركوا في حملة يزيد بن معاوية عليها. وأن هؤلاء الصحابة، قد وصلوا إلى أسوارها. ورابضوا تحتها لأكثر من سبع سنوات. حتى وصلهم بريد الخليفة معاوية. ودعاهم للعودة. وتأجيل الدعوة إلى فتحها، لإنشغال الجيش الأموي في ذلك الحين، بمهمات الفتوح، على جبهات أخرى. فعادت حملة يزيد بن معاوية إلى دمشق. وبقيت ثلة من الصحابة والتابعين، بجثامينهم هناك  يحرسون السور.  وأن الحملة العائدة عن القسطنطينية إلى دمشق، كانت قد تركت وراءها هناك، زهاء ألف من جثامين الصحابة والتابعين والأولياء، دفنوا تحت أسوارها. ولم يهتد بعد إلى تربهم الكثيرة. بإستثناء بعض من قبور الصحابة والتابعين، وعددهم 28 صحابيا وتابعيا. تبينها السلاطين العثمانيون فيما بعد. وفي طليعتهم: ضريح الصحابي الجليل أبو أيوب الإنصاري. وهو الأعظم والأجل. لأنه كان في الثمانين حين شارك في حصار القسطنطينية. وتوفي عن عمر يناهز الثانية والتسعين مرابضا تحت أسوارها. وإليه، ممن كانوا  معه من رجال الصحابة:  الصحابي حمدالله الأنصاري والصحابي أحمد الأنصاري والصحابي عبدالله بن جابر الأنصاري. وضريحه في جامع عاتك مصطفى باشا. حيث ضريح أبو شيبة الأنصاري الخدري بالقرب منه. وأما مقام أبو ذر الغفاري فيقع في جامع  يبعد مسافة خمس دقائق عن جامع عاتك مصطفى باشا. الذي رآه في منامه، كما تقول الرواية التي تليت علينا، فأمر السلطان أحمد الثالث، ببناء مقام للصحابي أبي ذر الغفاري، في المكان نفسه، كما رآه الوزير عاتك مصطفى باشا. وإليه أيضا مقام أبي الدرداء الذي أثنى عليه النبي، ثم أثنى عليه السلطان محمد الفاتح.  وهناك أيضا،  الكثيرون من رجال الصحابة والتابعين الذين إحتشدوا تحت أسوار القسطنطينية. ومن بينهم: فاتح مصر في زمن عمر بن الخطاب، عمرو بن العاص، بالقرب من محطة القطار في منطقة قاضيكوي. وقد بني مقامه، وفاء لذكراه. وهو ليس على مبعدة من المسجد العربي في محلة قرة كوي. وهو أول مسجد بني في إسطنبول. بل هو أول مسجد أذن به، يقول دليلنا السياحي. 
وفي العام 717م، نهض مسلمة بن عبد الملك بحملته إلى القسطنطينية بإيعاز من واده الخليفة عبد الملك بن مروان. ففتح محلة غلاطة. وبقي هناك يحاصر القسطنطينية بجنده وبكتاب الله، حتى أمر الخليفة عبد الملك بن مروان برفع الحصار عنها، لصالح الحملة الأموية على الأندلس. فأقام السلطان محمد الفاتح، فيما بعد، مقاما رمزيا لمسلمة بن عبد الملك. ثم رآه الوزير الأعظم علي باشا في منامه، فبنى السلطان أحمد الثالث قبرا رمزيا له هناك. ولا يزال الناس يكثرون من زيارته حتى اليوم.
أقول: وقفت على ضروح ومشاهد هؤلاء الصحابة والتابعين، مع دليل السياحة الدينية الموكل بنا، في زيارة عجلة، في منطقة أيوانسراي، من القرن الذهبي، تحت أقدام إسطنبول العظيمة. رأيت بنفسي ضروحهم في المنحنيات الجميلة هناك، في الجانب المطل على  إسطنبول الأوروبية. وكانت إسطنبول المدينة كلها: الأسيوية منها والأوروبية، تمتد أمام عيوننا. ننظر إلى ضروح الصحابة والتابعين. نقرأ الفاتحة مع الدليل عن أرواحهم. نصغي إلى حديثه الشغوف بهم. ثم نجيل النظر، في مآذن أسطنبول التي تنهض عليها سماء الدولة التركية اليوم،  فوقها. ونقرأ أيضا، في  كتاب الماء في أجمل مضيق. ونرى  بإنفسنا كيف تتهادى السفن عليه. نقرأ مع الدليل، من بعض إختياراته المخصوصة، من كتاب الله/ القرآن. ثم نعود فننعم النظر في السور البيزنطي الذي يتعالى علينا،  كلما حفت السيارة به. فيعجزنا حينما نأخذ بالهواتف، نلتقط له بعض الصور. كانت جميع صورنا، مبتورة. قصرت عن أعالي السور البيزنطي العظيم. تمام مثلما كانت تقصر أيضا، عن أعالي المآذن التي تتحوط ضروح الصحابة والتابعين. ومثلما كان يقصر الدليل السياحي، عن تلاوة السور ، التي كان يرتجلها أمامنا إرتجالا. وكثيرا ما كان يترتج عليه.
ذكر لنا، دليل السياحة الدينية الموكل بنا، أن جثامين الصحابة والتابعين، الثاوية تحت السور البيزنطي العظيم، هي التي تحرس اليوم إسطنبول من الغدر بها. هي التي ترد عنها الغلبة بالأثر الديني العظيم. وبالمأثور الديني العظيم. هي الحصن الذي تتحصن به إسطنبول،  «مدينة الصحابة». وأن هذة الكوكبة المرابضة  بجثامينها، تحت سور المدينة، يزورها الناس في رمضان من كل عام لبركتها. ويقصدها المسلمون من أقصى الأرض لشفاعتها. ويؤمها الرئيس التركي في المناسبات العظيمة، ليأخذ البركة منها. فهي بنظر الأهالي كما بنظر الدولة، الحافظة لدين الله.  الحافظة لإسطنبول العظيمة. ولهذا إهتم بها جميع سلاطين بني عثمان الأوائل على مدى عصورهم: السلطان محمد الفاتح. والسلطان سليمان القانوني. والسلطان أحمد. وسائر سلاطين  بني عثمان، الذي تعاقبوا على العرش. وأولوها إهتماما خاصا.
كان سلاطين بني عثمان جميعهم، حراس هؤلاء الصحابة. وكان هؤلاء الصحابة، حراس هذة المدينة. تبادلوا الوفاء بالوفاء. والدور بالدور. ولذلك هي اليوم تعرف بـ «مدينة الصحابة»، يقول دليل السياحة الدينية، الذي كان يصطحبنا. الذي كان يصاحبنا، من الهيئة الدينية لـ «مدينة الصحابة» ، إسطنبول.
  رأينا في تلك الزيارة الأثيرة، كيف كانت إسطنبول تزدحم في عيوننا. كيف كانت أسواقها أشد إزدحاما في عيوننا. وكيف كانت الضفتان على البوسفور وفي القرن الذهبي، وعلى ضفاف بحر مرمرة، تقتحم عيوننا.
 كان الماضي النبوي، والماضي العثماني، يلتقيان، على أجمل مدينة على الأرض، كما في وصف كاتب أميركي. وكان التاريخان: القديم والحديث، يجعلان منا. من صدورنا. من عيوننا. من عقولنا، مزدحما للأسئلة. نقف على المدينة من شرفات الفندق الذي ننزل فيه في ساحة تقسيم. من فوق الجسر الواصل بين الضفة والضفة. من فوق برج غلاطة. من فوق السور البيزنطي الذي تعجز العيون أن تقتحمه. من فوق القلاع العثمانية براياتها المرفرفة. من بين باحات مسجد السلطان محمد والسلطان أحمد والسلطان سليمان القانوني، حيث يحتشد الناس. من مدينة، بل محلة السليمانية. حيث مقام وضريح السلطان سليمان القانوني وصحبه في أعالي ربوتها. من الماء الجاري بين ثنايا المدينة. من خزان الماء الروماني المعجزة. من السماء الجارية فوق أسطحها. من النجوم التي تلمع في سمائها. من القمر الذي يرعى المهاجرين والزائرين والمقيمين من جميع أرجاء البحر المتوسط، في ليالها. من الشمس التي، تمتد بطول شارع الإستقلال فيها، عشية إحتفالها بالمئوية، من ساحة تقسيم حتى برج غلاطة، ودرجه ومنحدراته إلى الجسر الواصل بين البازار المصري، والبازار الكبير تحت أنظار جامع السلطان أحمد. 
كان السؤال الأعظم، الذي يزدحم في بال المتسائل، المتشاكل، المتشائل: كيف حضرت معظم ضروح ومشاهد ومقامات الصحابة والتابعين إلى هنا. لماذا أتى بها السطان محمد الفاتح، وتابعوه من السلاطين العظام. لماذا أتوا بكل هذي المشاهد. بكل هذة المقامات. بكل هذة الضروح. لماذا الإصرار على إحضارها. لماذا الإلحاح على إعادة صب تاريخها في أسماع من يسمع من زوارها. ما وجه أحضارها. ما وجه حضورها. ما وجه إحياء آثارها. ما وجه إحياء مأثورها. 
 كان لا بد أن نعود بالذاكرة، يقول الدليل السياحي،  إلى عصر الفتوح. وأن نصيخ أسماعنا، يقول الدليل السياحي: للقراع التاريخي. للصراع التاريخي. لا بد أن ننظر يقول الدليل السياحي، إلى الثغر الأوروبي العظيم الممتد بعد إسطنبول. لا بد أن ننظر إلى ما بعد بعد إسطنبول. إلى الكاتدرائيات المتوثبة في إسطنبول. إلى الكاتدرائيات الثاوية في إسطنبول. إلى الكاتدرائات المتوثبة خارج إسطنبول. إلى المآذن العالية، مقابل الأجراس العالية. تلك المآذن العالقة بين ضفتين، تقابل الأجراس العالقة بين الضفتين. مساجد وراءها آسيا. وكاتدرائيات وراءها أوروبا.  
كان دليلنا السياحي المولج بنا، يشرح بإبتهاج، كيف وصلت كوكبة من الصحابة المجاهدين، إلى هذا المنعطف من الأرض. إلى هذة الثغور الباسمة لأوروبا. بالسيرة النبوية. وبالرسالة الإسلامية. وبكتاب الله/ القرآن. كانت رسالة الصحابة المحتفظ بها، ها هنا في الثغور، هي العلامة الفارقة، على أرض البلقان. وعلى أرض الأناضول. وعلى أرض تركيا العظيمة غريقة البسفور. يذكر، كيف كان السيف يحل على الصيف، كلما صعدت أوروبا. كلما قرعت أجراسها. 
 كان الدليل السياحي منهمكا في شروحاته: مآذن مدينة الصحابة/ إسطنبول،  تصدح، كلما قرعت أوروبا أجراسها لنا. يحدثنا على مهل. ينظر في أعيننا. يثبت نظره أكثر، في عيون من يكون أكثر تأثرا بيننا. وأكثر دموعا. ثم يطيل الشروح، حتى يبلسم الجروح، وحتى تتدغدغ العواطف، بأن من كان وراءها، إنما تلك الكوكبة الأولى من رجالات الصحابة والتابعين. نهضوا بالفتوح التي طال إنتظارها. و طال أيضا أمدها، بين الشرق وبين الغرب. بين ضفتين من المآذن والأجراس. حشد يقابل حشدا. والتاريخ شاهد. وأن الطلائع الإسلامية الأولى في العصر الأموي، كانت  من صحابة النبي ومن جلة من التابعين.  وقد صمموا للوصول إلى هذي الثغور لبناء الجسور بين برين: البر الأسيوي والبر الأوروبي. وأنها أتت إلى هنا لتبقى. وإنها هنا لباقية، تحرس ما تبقى!.
كان سؤالنا المشروع،  للدليل الموكل بنا، الذي يصحبنا ويصطحبنا، عن طلائع الفتوح وإصطحاب الصحابة إلى هنا. وكان جواب الدليل، إنه: المشروع !. مشروع الرسالة. مشروع الهداية.  مشروع الدولة. فالشرق شرق. والغرب غرب. هكذا قال المستشرق رينان. نحن هنا في إسطنبول، صلة الوصل بين قديمين. صلة الوصل بين حاضرين.  نحن هنا نريد أن نحفظ المعادلة الآمنة بيننا: نريد أن نحافظ على صيغة لا غالب إلا الله، في المعادلة الدولتية القادمة: لا غالب ولا مغلوب. 
مشروع الدولة في تركيا، الذي نراه اليوم، كان الإثبات السياسي والديني. فلا عودة إلى الوراء. ولا عودة إلى زمن الإمبراطوريات الغابرة. فضروح الصحابة هنا، وخلفها المآذن التي ترتفع عليها سماء إسطنبول. وخلفها ضريح السلطان محمد الفاتح، وضريح السلطان أحمد وضريح السلطان سليمان القانوني، لمما يجعل الإثبات أقوى. لمما يجعل المشروع الدولتي أقوى. لمما يقوي عصر الفتوح في النفوس. لمما يعظم ماضي الضروح. لمما يؤثل حاضر الضروح. يجعلها أكثر إثباتا. أكثر ثباتا، قبالة البر الأوروبي. يحرس رأس الجسر الواصل بين الضفتين: إسطنبول وما وراءها. إسطنبول وما إمامها. 
 كانت الضروح إذن، من متممات الفتوح، يقول الدليل السياحي، ملتفتا إلينا، ونحن في زيارة  ضروح الصحابة. ولكن التساؤل المشروع، حمل الدليل على العودة إلى الوراء، ما دمنا في زمن الرسول. أخذنا بأطراف الحديث عن الجروح التي كان يعانيها النبي و الصحابة. كانت سيوف الإمبراطوريات القديمة، ممعنة في الترويع. على الدروب. وفي الأسواق. وفي المدن. وفي البوادي وفي الفيافي وفي السهول. وفي حقول الزروع.  كان لا بد من الوقوف لرد الزحوف. لدرء أخطارها. كان لا بد من سيف، يواجه السيف.  كان لا بد من عقيدة، تشرح الوقائع. كانت  قسوة الوقائع، تنكأ الجروح. تستيقظها. تجعلها أقوى. تجعلها أشد نزفا. أكثر إثارة وحمية وعصبية. فكانت الجروح، نبع الفتوح. وكانت الفتوح، نبع الضروح، حيث سالت بها إلى إسطنبول،  مدينة الصحابة.
كانت هذة الثلاثية المقدسة، مجسدة تماما، ونحن نقف على الضروح الحاضرة، بجثامينها الغائرة في الزمن، في ثغور إسطنبول. كانت هذة الضروح بمثابة السور الواقي لإسطنبول العظيمة في بريها: الأسيوي والأوروبي، على ضفتي البوسفور، وفي القرن الذهبي. وقبالة بحر مرمرة. و البحر الأسود. وعلى المضيق الذي ينسرب إلى البحر المتوسط.  كانت إسطنبول، معجزة الحضارات القديمة الجديدة: حضارة سالت من نبع الجروح. مع  الفتوح. كانت لها مشاهدها التاريخانية ها هنا، في إسطنبول، حيث بنت مشاهدها. مشاهد كل هذيه الضروح تحت ظلال إسطنبول!. 

أستاذ في الجامعة اللبنانية