5 تشرين الأول 2023 12:00ص دفتر اللحم

حجم الخط
كنت في صغري، كلما دخلت إلى دكان أبو هاني اللحام، أطلب حاجة أهلي الأسبوعية لكبة القراص والكبة بالصينية، إنتبه بتأثّر بالغ، وهو يتناول دفتر الدكان، ويسجل عليه ثمن اللحم، ثم يسلّمني الكيس، ويقول بعد تقطيب حاجبيه: سلّم على الوالد.
كنت بإحساسي الداخلي، أفهم لماذا يقطب أبو هاني اللحام حاجبيه. فما كنت أحمل الفلوس اللازمة ثمن اللحم، ولهذا ما كان يودّعني بإبتسامته المعهودة، كما يفعل مع سائر الزبائن. فاللحم بالنقدي، غير اللحم بالدين، والزبون يختلف عنده: المدلل لفلوسه، والفقير الذي أعوزته الفلوس. كنت أتحسس بخاطر مكسوف، الفرق الشاسع في الاستقبال، وفي الترحيب، وفي الوداع، قبل الخروج من باب الدكان، دكان أبي هاني اللحام.
كان أكثر ما يشدّ إنتباهي هو ذلك الدفتر الذي يضعه على الرف. كان ينادي على إبنه هاني الذي يساعده منذ الفجر بعبوسة معهودة: ناولني يا هاني دفتر اللحم عن الرف. فقد وضعه عاليا، حتى يكون في مأمن. فهو سجل مبيعاته اليومية من اللحم بالنقدي، أو بالدين.
كنت أنظر إلى ذلك الدفتر السميك الملطخ بالدم، وقد دوّن عليه أبو هاني، لحام القرية: أسماء الذين حملوا اللحم ومشوا، بثمن أو بلا ثمن. كان يحتفظ لنفسه بمبيعاته من اللحم، يوميا، على دفتر اللحم. وكان يحاسب زبائنه على أساس ما سجل لهم أو عليهم من ثمن اللحم. كان يخشى أن ينسوا ما أخذوا من اللحم، بالنقدي، أو بالدين. غير أن اللحام أبا هاني، ما كان ينسى. كان دائما يطالع بين الحين والآخر دفتر اللحم المصبوغ بالدم، فيعرف مبيعاته كلها من اللحم: اللحم المدفوع الثمن، واللحم غير المدفوع الثمن، والعائلات التي تنقد أبا هاني، والعائلات التي تستدين منه. وكان القسم الأول منه لتسجيل المبيعات بالنقدي، وأما القسم الثاني منه، فهو لتسجيل المبيعات بالدين.
كنت حين أزور اللحام أبا هاني، أكثر ما يشدّ إنتباهي، دفتر اللحم على الرف العالي. فهو لتقادمه، يبدو لناظري متهالكا، مهترئا، أكل الدهر عليه وشرب.
دفتر ملطّخ بالدم، دم الذبائح اليومية والأسبوعية والشهرية، دم ذبائح الأعياد ودم ذبائح النذور، ودم ذبائح الصدقات والصداقات، ودم ذبائح الأضحيات، ودم ذبائح الولائم. كان على دفتر اللحم، دم من كل أنواع الذبائح التي علّقها في دكانه، ثم لم يلبث أن باعها للزبائن بالنقدي، أو بالدين. وكان إلى ذلك يحمل أسماء كل العائلات التي أطعمت باللحم، وأشربت بالدم.
ما كان يغيب عن بالي، دفتر اللحم، وأنا أتابع في العقارية اليوم، معاملتي. كنت أرى بعيني، كيف ينادي المعلم بصوت جهوري على الشاب، ليحمل إليه السجل العقاري. أنظره عن بُعد، وأنظره عن كثب وعن قُرب.. كان السجل العقاري بين يدي الشاب، مثل دفتر اللحم، بيد الصبي هاني. كنت أرمقه كثيرا كثيرا، فهو ليس إلّا صورة ممسوخة، صورة منسوخة، عن دفتر اللحم، في دكان أبي هاني اللحام.
دفتر اللحم هو نفسه يا عزيزي، تجده اليوم أيضا في السجلات البلدية، تجده في سجلات المالية، تجده في سجلات المدارس الرسمية، تجده في جميع دفاتر وقراطيس وأوراق ومرافق النافعة ودوائر السير.
دفتر اللحم تجده في المستشفيات الحكومية، تجده في الفروع الجامعية، كما في مبنى الجامعة المركزية. دفتر اللحم تجده أمامك على رفوف الوزارات وعلى رفوف المحاكم، وعلى رفوف قصور العدل. دفتر أبي هاني اللحام، تجده حتما، في مراكز الكهرباء والماء والهاتف.. تجده في جميع دوائر الدولة، بلا إستثناء.. تلك التي تدفع بالنقدي، أو تلك التي تدفع بالدين.
دفتر اللحم، تجده ماثلا لأنظارك في مباني الجمارك وفي مباني القصور «الثلاثية الأبعاد»، ولهذا ربما، تجدهم يخطبون من فوق منابرها في المناسبات، مثل أبي هاني اللحام. تجدهم يخطبون اليوم، كمن يقرأ في دفتر اللحم.
تذكّرني خطابات القادة والرؤساء، بقراءات اللحامين في دكاكينهم، وهم يراجعون دفتر اللحم.. يراجعون ما لهم، يراجعون ما عليهم، ويقطبون حواجبهم.. يهدّدون ويتوعّدون. أما أبو هاني اللحام فكان أذكى من أن يهدّد أو يتوعّد، أو يتلفظ بالإسم، أو بالإثم.
يقف الخطباء الرسميون أو أشباه الرسميين اليوم، وبأيديهم دفتر اللحم الملطّخ بدماء الذبائح من كل الأنواع. الملطّخ بمبيعاتهم المختلفة الأشكال والألوان. الملطّخ بتواريخ مبيعاتهم، بأنواع مبيعاتهم، بسائر الفضلات التي فاضت أوزانها عن دفتر اللحم. تراهم يخطبون، يعبسون، يهدّدون، يتلمظون، يتحفّظون.. دون أن يندّى لهم جبين، فوق أوراقهم الهزيلة الملطخة بالدماء من نصف قرن، تلك التي تشبه دفتر أبي هاني اللحام.
ليتهم كانوا يخجلون من أبي هاني اللحام نفسه، كما أخجل اليوم أنا، كلما مررت بدكانه في قريتي. ليتهم كانوا يقرأون أو يخطبون على المنابر، في المناسبات، أو حتى بلا مناسبات، كما يقرأ أو يخطب، أبو هاني اللحام في دفتر اللحم! ليتهم كان لهم، أدب أبي هاني اللحام.

أستاذ في الجامعة اللبنانية