بيروت - لبنان

4 تشرين الأول 2023 12:00ص رأفت حكمت وكرونولوجياته القصصية

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
«مُتَأخّراً عنِ العالم مسافة عشر دقائق»، إنما هي المجموعة القصصية التي أتحفنا بها مؤلفها القاص رأفت حكمت، والتي صدرت عن دار النهضة ببيروت، ط1، 2023: ( 124 ص. تقريبا).
يسبر القاص، في هذه المجموعة أغوار الزمن. يضغط الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات، كما يضغط الليل والنهار، والأمس واليوم والغد. يريد الإحتفاظ فقط بالبرهات واللحظات، التي يعتبرها جوهر وقته لصياغة الأحداث الكثيفة. يبني منها أسطونا حكائيا عابرا للأزمنة. يريد من كل ذلك، حل المشكلات اليومية المتوالدة، من دون أن يتأخر عن جدول الوقت، ولا عن جدول العمل المحدد، على إيقاع الزمن المنقطع عن الأزمنة. فترى الموضوعات تتهافت تحت مطرقة الوقت الذي يصنع البرهة المناسبة، للخلود الفني. لأن السؤال الدائم الذي يدور في ذهن القاص، هو كيف يجمد الأزمنة في أيقونات قصصية، أيقونات حكائية؟ كيف يجمّلها؟ كيف يجعلها على صيغة وقت عابر، على صيغة وقت جامد، على صيغة وقت قاتل، على صيغة وقت متسامح؟ لأن القاص رأفت حكمت، أراد أن يجعل من الزمن، كهفا عظيما، بحجرات عديدة، لا تنتهي. أراد أن يجعل من الوقت جملا، يعبر به صحارى المعاني وبيدها، ينيخه حيث شاء، ويسوقه متى شاء، يؤخّر السرى، ويستقدم الأماسي، على وقع الأحداث التي تقع له في الطريق. أراد أن يصنع للوقت شبها من الكروكي، مجسّما، جسما، إنه القاص الذي صنع ماكيت الزمن لأول مرة في فن الأقاصيص.
«صهريج ماء قديم، منسي في مكانه، لدرجة، غاصت عجلاته المخفوسة في التربة، وغطتها الأعشاب...
كان الجو شتاء، والساعة تقريبا حوالي العاشرة ليلا. هدوء الشوارع في القرية، والبرد، وخوفنا، بينما كنا نسمع بحذر، صوت مواء - كما ظننا في البداية - فيه إستجداء، آتٍ من داخل الصهريج، وذلك قبل أن نتجرأ ونختبر شجاعتنا الأولى، في الإقتراب والإكتشاف...».
عمل رأفت حكمت، في مجموعته الجديدة: «مُتأخّرا عن العالم مسافة عشر دقائق»، لا يقلّ فداحة عن عمل روائي متكامل، بصيغة قصصية متقاطعة. فعوض تقديم حكاية، أو رواية، تقترب من أهم مراحلها وتطوراتها، على نحو مدروس، بغية أن يأتي التشويق طبيعيا، يعمد المؤلف إلى الأوضاع التي من شأنها إحداث الصدمة.
وإحداث الصدمة، إن لم يكن مبنيا على خلفية فنية، يبقى واجهة كرونولوجية، تماما كحركة الناسج الذي يدير نسيج خيطه، ويقطعه حيث يريد له أن ينقطع. هكذا يقطع في كهف الزمن حجرات الوقت، بشكل مدروس ومناسبا، لصناعة الأحداث.
هذه المجموعة التي بين يدينا إذا، إنما تتكوّن في نسيجها العام من ثلاثة أقسام: توطئة - وعشرة أصابع مفقودة - وهي بين هم. ويتكون القسم الأول من سبع أقصوصات، هي:
يوم كامل في أقل من ساعتين، وبقعة في الذاكرة، ووجه البحار القديم، ورحلة بحث عن الحقيبة، ومن الذي سرق السجادة، وعميل مجهول الهوية، وذهب وصبار.
أما القسم الثاني، فهو مؤلف من خمس أقصوصات: رجال القوالب البلاستيكية، والنار في مكان آخر، من ذاكرة الخشب، عبور أخير بعينين مغمضتين، وأربع كراسٍ شاغرة.
أما القسم الثالث والأخير، فهو مؤلف من عشر أقاصيص: تلبيسة من الكاوشوك، اللاعب الرابع، غرفتان في الخيال، هكذا بكل هدوء، صوت مطاردة لا تنتهي، حقنة مرمية على الطاولة، إمرأة في مثل شعبي، ومنام مزمن، ولا يطلب شيئا، لا يحدق في شيء، وباب للخروج.
«لم يكن يرغب، ولا في أي مرة، أن يكرر هذه اللعبة، إلّا أنه لم يعد يملك خيارات كثيرة. فالغرفة التي كان أولاده التسعة ينامون فيها، صارت عالية جدا. وما عادت ذاكرته تسعفه في حفظ الأسماء».
والقاص رأفت حكمت، من سورية. يكتب القصة القصيرة الحديثة. وهو حاصل على المركز الأول في مسابقة الشارقة للإبداع العربي. درس الهندسة، ويعمل في الصحافة. وله مشاركات مع عدد من الكتّاب والشعراء العرب، كما جاء على ظهر هذه المجموعة، أبرزها: متحف الأنقاض، والديكاميرون، وأحاديث الجائحة. وقد صدرت له مجموعة شعرية أيضا بعنوان: «خوفا من الصياد» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
يختم في «منام مزمن»:
«في آخر ليلة له، كان الحلم مختلفا تماما. فقد تحوّل الإسطبل الذي إعتاد أن يستيقظ فيه أثناء حلمه، إلى صندوق خشبي كبير ومفتوح، أقرب إلى كونه تابوتا، هو في داخله، ممدّد وصامت تماما. بينما كنت أنا، أطلّ عليه من الأعلى، وأصرخ بكل الأصوات التي يمكن لها أن توقظ نائما، مقلّدا أصوات أقدام كثيرة، لعلي أوهمه أن ثمة أحد، يمشي في جنازته».

أستاذ في الجامعة اللبنانية