بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 شباط 2023 12:00ص ربى الصلح في «محطات الشمال»الأدب تشكيلاً حروفياً

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
انتهيت من قراءة رواية « محطات الشمال» للكاتبة اللبنانية المهاجرة ربى الصلح (دار الفارابي، بيروت، 2023:  120ص. تقريبا). فوجدت أن شخصياتها، تُعدّ بالمئات. ومعظم أحداثها، إنما تدور في «محطات» زمنية ومكانية مختلفة. غير أنها تعبّر جميعها وبالكليّة، عن عذابات النفس المهاجرة، مثل طيور اللقلاق، أو مثل طيور النورس، لا فرق.
«أعلن صوت المتحدث الإلكتروني في الباص إسم المحطة القادمة.
شعر سعد بقشعريرة تسري في أسلاك بدنه. إنه قريب من المنطقة الحمراء».
لعلّنا نقول إن ما يلفت متتبعها، كيف إستطاعت الأديبة الصاعدة، التمكّن من كتابة، بل من تشكيل الأدب، تشكيلا حروفيا. بمعنى آخر، أنها إستطاعت أن تجعل من فصول الرواية، لوحات حروفية، بالغة الدقة والجمال.
«مرأى الخباز الألماني يقرص أمعاءه الفرغة. لم يأكل منذ الصباح، ولا يحمل في جيبه ثمن كعكة. يطرب لرؤية الأشياء المعروضة بعديد الأشكال والأحجام، بما لذّ وطاب».
في الأصل، الحروفية، إنما هي مدرسة فنية، برع بها التشكيليون القدماء. ولكن سرعان ما انتقلت إلى الفنون التشكيلية الحديثة، لأنها بدت معجبة لمحبي الفن التشكيلي المعاصر.
الأديبة ربى الصلح، إستطاعت أن تزيح الحروفية،  والتشكيل الحروفي، عن العمل في فن الرسم، وأن تعيد إبداعات هذه المدرسة الفنية من جديد في فن الرواية والأدب. وهذا هو سرّها في الأساس، الذي يرسم في الواقع، كل التشويقات، لقراءتها، بغير الأسلوب القديم للقراءة. لأن القارئ، يجد لذة في تتبع السطور، أينما وقعت عيناه من سطور الرواية.
في تضاعيف الرواية، تبدو لنا الفتيات والعجائز، والأمهات والآباء والأبناء والأزواج والعشاق، والمكدّون في ضروب  ودروب الحياة، أنهم يتابعون الكارثة النهائية، على الرغم من كونها كارثة متجددة.
برأينا أن هذا النوع من الأدب، الذي يقرأ شاقوليا، كما  يقرأ طردا أو عكسا، إنما يدلّ على براعة كاتبه. فالمعاني تذوب ذوبا في مقاطع قصيرة جدا، ولو إنها لا تسمح للتجدد الفكري أو العاطفي للشخصيات، من البروز. على الرغم من كونها مفاصل هامة في الرواية.
«أنا لا أسلّيهم. أنا أرشدهم. عملي هو مرشدة سياحية. وهو عمل جميل».
الكاتبة ربى الصلح، في مهجرها، لم تنسَ وطنها. لم تنسَ معاناة وطنها ولا معاناة أهلها، في بعلبك وفي بيروت وفي جميع الدارات التي نشأت فيها. ودأبت على إدراجها. بل كانت وفيّة لماضيها، تماما كما كانت وفيّة لحاضرها، في المقلب الآخر من الوطن.
«إسمع يا سعد، إنني أباشر بمشروع بناء شركتي السياحية الخاصة. وأريدك أن تكون عونا لي».
حين نفكر في الصلات التي يمكن أن تجمع بين مسارات نصوص متنائية في عوالم الأدب، تبدو لنا التفاصيل الحياتية، حاملة لمضمرات جديرة بالتأمل. وهذا ما يقع لنا حين نقرأ النصوص السردية، في رواية الأديبة ربى الصلح. فثمة سباق لاهث في نصوصها، لحصار شلال الزمن المنهمر أما ما يتبقّى فيها، فهو عبارة عن تحوّلات محكومة بسياق التكوّن الشخصي، وتطلّعات خيالها اليافع.
«لم أعرف أن عشاءنا سيتحوّل إلى عشاء عمل منذ اللقاء الأول. إنك سيدة أعمال ورائعة الجمال. قال راشد مبتسما».
هي إذا، بعض نسيج الروابط المتباعدة، بين أكوان فكرية وإبداعية، ولو أنها متباعدة في منشئها وفي الهويات.
ولعل التجاورات الأدبية والنقدية، هي التي تميز التشكيل الفني في الرواية. فتبدو الحروفية الأدبية، نصا بليغا. بل جرحا بليغا في عالم الأدب عندها. إنه النموذج الروائي المختلف، الذي يؤسس لرؤية مختلفة وإجتهادات زمكانية مأنوسة، تطمح إلى بلورة خطاب فكري يبلور خطابا فكريا، نجد في تضاعيف بناه، جميع إخفاقات النهضة العربية، وجميع إخفاقات النهضة اللبنانية، المتلازمة معها.
نصوص الرواية، تحيل إلى قيم إبداعية، وإلى معرفة سوسيولوجية وسياسية وإنسانية مشتركة. تبدأ بالقضية الفلسطينية، ثم هي لا تنتهي بالقضية العربية ولا بالقضية الوطنية اللبنانية. إنه إذا الأفق الذي يغلب الفكر والنقد والنضال والجهاد، كما الصداقة والحياة العائلية. حيث يتبدى الإنتماء من عدمه، أفق ربى الصلح الفسيح للكتابة.
تكرّس رواية ربى الصلح: «محطات الشمال»، الوظيفة المركزية لوضعية الإنسان المبتعد عن الوطن. الإنسان المغادر والمهاجر. الإنسان الساعي، لطلب الحياة وطلب الأمان وطلب المعاش. وذلك في مدارات الرحيل والإقتلاع والإغتراب. فينشأ على ضفاف ذلك، لوحات تعبيرية في صيغة رواية نفسية لعالم مختبئ تحت أجنحة النفس الغائرة في الأعماق.. ولهذا نقع على كتابة نقيضة، تعيد