بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الثاني 2023 12:00ص رشيد الضعيف: «ما رأت زينة وما لم ترَ»: سينفجر الكون سينفجر ثانية

حجم الخط
نحن اليوم، أمام وضع عسير جدا. أولئك الذين فرّوا من العدالة، عادوا إلى إرتكاب مجزرة ثانية، مجزرة المرفأ في بيروت، الرابع من آب 2020، عادت اليوم علينا بكارثة ثانية. بمجزرة ثانية. في المستشفى الأهلي المعمداني، في غزة: السابع عشر من تشرين الأول2023. 
 الروائي اللبناني، رشيد الضعيف، يرصد حقا، في عمله الروائي: «ما رأت زينة وما لم ترَ - دار الساقي»، جميع فصول الجريمة، كما وقعت على قلب الأهالي. تمثلها جيدا، كشاهد عيان.
«الساعة الآن نحو الرابعة بعد الظهر في بيروت. يشير إلى ذلك ميلان الشمس قليلا نحو المغيب فوق البحر، وكذلك ميلان الظلال في المدينة».
يروي التفاصيل الدقيقة، على ألسنة الذين عاشوا لحظات وقوع جريمة المرفأ، في بيوتهم، في دورهم، على الشرفات، وفي الطرقات.. رصد الدقائق المفزعة التي إنهالت على رؤوس الناس، على حين غرّة.
«وقفت زينة بعد أن سقت الزرع، عند حرف الشرفة، وتأملت المدينة...
زينة تتأمل كل يوم مدينتها وتندهش».
الإنقلاب المفاجئ، في حياة المدينة، أعظم من كارثة وقعت، بلا إنذار مسبق ذلك المساء. خرجت الأحياء عن نمطيتها السابقة، بعد ثوانٍ من الإنفجار. خرجت الشوارع عن عاداتها. فرغت الدور والبيوت والحارات، من نداءات الحب والألفة، إلى نداءات الإستغاثة، كمن يريد الهروب من الجحيم، كمن يريد الخروج من الجحيم.
«زحمة السير خانقة، وزينة تتقدم ببطء شديد، ويكاد ينفذ صبرها. فإتصلت بأختها لتؤكد لها أنها ستتأخّر. (ماري العجقة ما بتنطاق)».
كل شيء في كارثة، يقول رشيد الضعيف على لسان أبطال روايته، على لسان بطلاته. صار الناس يسألون عن الرغيف، صاروا يسألون عن البنزين وعن المازوت، وعن حاجات البيت، عن وجعه، عن المدارس، عن الجامعات، عن المستشفيات.
«إبتسمت ماري عندما فتحت لهما بشرى إبتسامة النجاة. وأول ما بادرت به، هو طمأنة إبنة أخيها، بأنها شغلت قنينة الماء الساخن لحظة وصول الكهرباء. ونصحتها بأن تصبر قليلا حتى يسخن الماء جيدا».
كأنما هناك زلزال ضرب المرفأ ومحيطه، والناس والعمال ورجال الإغاثة. صار الموت يسأل عن الموت. صار الناس جميعا، يسيلون في الطرقات مثل غثاء طوف عظيم، ضرب الحارات وأحالها، على حين غرّة، هباء منثورا.
«وبينما الأم وإبنتها تصعدان، كانتا تشاهدان ما لا يمكن إنسان أن يتصوره: الدرج إلى الطوابق العليا مليء بعوائق لا يمكن تخطيها... وإلى جانبي الدرج أبواب الشقق مخلعة، تسمح برؤية الداخل الذي تصدر منه أصوات تسمع بوضوح... وفي طابق آخر، سمعا صوت طفل ينادي أمه، وهو يبكي بكاء واهنا متلاشيا».
 رشيد الضعيف، أهم ما في عمله، أنه يقرأ طردا وعكسا. لا شيء يتغيّر على القارئ، وهو يقلب صفحات الرواية، تسيل في النفس عذوبة مشوقة، إلى المعنى، إلى المعاني، إلى ظلالها، بكل شفافية رائعة، بكل شفافية رائقة.
«الرابع من آب 2020، ينزلق فنجان الشاي من مكانه ويقع».
مشوّق للغاية عمل رشيد الضعيف، حين يسرد التفاصيل المملّة، فتصير على يده تفاصيل مهمة للغاية. نقطع معه قالب الوقت في عمله، وكأنه قالب حلوى. نسير معه الهوينى، من فصل إلى فصل، ومن باب إلى باب، تفتح لنا النوافذ كلها، على جهات الأرض كلها، على جهات المرفأ، على جهات الكارثة.
«تقف زينة في الفراغ الذي كان بابا، ومزيج من المشاعر بادٍ عليها. وأكثر ما هو بادٍ عليها الغياب. بشرى الواقفة ورائها تمتنع من النظر إلى الداخل، لئلا ترى من الهول، ما قد يفقدها الوعي.
عندما تنبّه الأستاذ فيصل إلى وصولهما، بادرهما فورا بالقول: (ماتت)».
يمزج رشيد الضعيف في روايته، كما إعتاد في رواياته السابقة، بين العامي والفصيح، كأنه يريد لأي قارئ من قرّائه، أن لا يظل خارج المعنى. فهو كاتب المعاني وظلالها. يعاين المشاهد، ويجعلها أكثر مقاربة للرائي، مما هي عليه، كأنه مترجم الأحجار المتراكمة، كأنه مترجم الأحداث المتهاوية، كأنه مترجم صراخ الأشجار في الهاوية.
«إصبري بعد شوي حتى تسخن المي منيح».
رشيد الضعيف يروي بصدقه المعتاد، بصدقيته المعتادة، ما أبصر، عشية الرابع من آب، في حوض المرفأ. زحف الموت المفاجئ على الناس، زحفت ألسنة اللهب على أبدانهم. مزّقتها أشلاء أشلاء.
«في هذا المكان المدمر، حيث الست سوسن جثة على كنبة، وزينة غائبة في فراغ الباب، ورائها إبنتها كأنها لا شيء في لا مكان.. والأستاذ فيصل على كرسيه صامت مكسور الخاطر، مدرك لما يجري غير منتبه، أو منتبه لما يجري غير مدرك، أو ليس منتبها ولا مدركا..
الأستاذ فيصل وعي غامض...
في هذا المكان المدمر، كل شيء موجود وجودا تاما في الذهن، لكن لا شيء في الواقع المرئي، يشبه ما في الذهن والذاكرة».
 رشيد الضعيف، صدقت: سينفجر الكون.
نعم سينفجر مرة ثانية. ها هو يتحقق الإنفجار الذي هجست به في غزة. في المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، بعد إنفجاره في المرفأ، بعد إنفجاره في بيروت.

أستاذ في الجامعة اللبنانية