بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 حزيران 2022 12:00ص زياد كاج في «مونداي مورنينغ» حسن توظيف النكتة في الحدث

غلاف الرواية غلاف الرواية
حجم الخط
لا يستطيع أحد أن يعلم، كيف يتم إختيار عمله.. ولا بالطبع، على أي أساس نخبوي يتم إختيار البدايات الأولى. لكن، من الممكن، من خلال بحث، ينصرف إليه الباحث، إستشراف، أن البدايات المهنية، كما البدايات الثقافية، عملا مبكرا، ووقائع مشهودة، يمكن لها أن تصب في توفير الإستنتاجات والإستلهامات، لما يعرف ببداية المسيرة، التي كانت هي الأساس، في بلورة جوهر الشخص، وجوهر عمله، خلال ثلث قرن أو أكثر. وهي الفترة الزمنية التي يقطعها الإنسان، في حياته المهنية، مُكدّا ومجتهدا، ليضع بعد ذلك سلاحه، ويحاول قراءة الخطوات التي مشاها، فيسجلها نفسه بنفسه، وهو يجلس على كرسي الإعتراف.. فيبوح لنفسه، بكل ما كان يعتملها، وبكل ما كان يعتورها، على حد سواء.
الكاتب والإعلامي ورجل الصحافة زياد كاج، وفّر على الباحثين عنه، كل جهودهم، وضع روايته: «مونداي مورنينغ. دار نلسن. رأس بيروت. 2022. ط1. 266ص تقريبا»، التي قال فيها الناشر، الأستاذ سليمان بختي، على صفحة الغلاف، تحت عنوان هذا الكتاب:
«يروي زياد كاج في كتابه «مونداي مورنينغ» سردية الصحافة اللبنانية، من خلال تجربته المهنية، محرّرا وشاهدا وعابرا في مجلة المونداي مورنينغ».
لا أمانع في أن يقوم لبنان من موته، وهو لا يزال يعيش برهة البدايات، بدايات الحرب، بل الحروب كلها. كما أستشفّ من خلال هذه الرواية للإعلامي زياد كاج، بل من خلال ما أسميه «معجز كاج»، العمل النوعي الذي تجتمع فيه، كل مواصفات العمل الجاد، والدقيق، والرصين. فتحت عنوان: «عالم مكتب الوردية - ص5»، يقول:
«في مكاتب المجلة الأسبوعية في منطقة الوردية، كانت الإنطلاقة. صاحبها نقيب المحررين آنذاك ملحم كرم، كان يديرها من المنطقة الشرقية، حيث المكاتب الرئيسية لدار ألف ليلة وليلة، التي تصدر أيضا: مجلة الحوادث وجريدة البيرق بالعربية بالإضافة إلى Revue du Liban بالفرنسية».
فزياد كاج يرتفع قليلا عن مستوى العمل الصحفي التقريري، ليماثل الطريقة السردية الوصفية الشعرية، التي تمنح الصحفي، فرصة الإرتقاء والسمو، لإستشفاف الفناء الخلفي للحدث، بكل ما فيه من أسرار، وبكل ما يخبئ من دفائن ترتقي إلى عالم الإشارات، التي تشي بصورة المستقبل الغامض اليوم، الشديد الوضوح غدا.
صنع زياد كاج، عملا أدبيا ساخرا، نقل حكايته من أرض الواقع، فجعل منه رسالة إعلامية وأدبية. فأحسن توظيف وتوصيف النكتة في الحدث، كما أحسن توظيف وتوصيف الرعب، الذي يقبع خلف الحدث.
لحمة عائلية، وراء الحدث هو زياد كاج. وهذا لا يعني سوى أنه، وبتفكير مرجعي وأدبي وصحفي، وتقليدي ربما، يريد توزيع المهام، كما يريد تنويع الإتهام. بحيث تكون الأحداث الموضوعة التي يتحدث عنها، تكاد تنتهي في البال، وفي التوقعات، منذ حين وجيز، على بدايتها.
الأديب والصحفي زياد كاج في معجزه، هو في الأساس، وعلى نحو عملي، يعرض في روايته، كل ما سيأتي علينا لاحقا. لأن قريحة الكاتب عنده، تلحّ عليه دائما، بأننا في وقت لاحق من الآن، سوف نرى المشاهد ذاتها لاحقا.
كتب الصحفي زياد كاج روايته ونفّذها، كما هي، بلا رتوش، ولا تجميل، ومن دون إستشارة، ومن دون نصيحة من أحد. وهذا يعني أن المؤلف الوافد من عالم الصحافة، وجد صوته وغنّى به معجبا، بصرف النظر عن إستمزاج آراء النقاد وآرائهم.
رواية زياد كاج، لم تكن تحتاج لبداية سوف يعود لإستكمالها فيما بعد، ذلك أنه يعتبر الحدث الذي يسجله، مثل تفعيلة شعرية، مثل لعبة نارية، فهو لم يصوّر الإنفعال، بإنفعال آخر مفتعل. فقيمة الرواية كما مستواها، يتدنّى، عندما يحاول الكاتب الربط بين لحظات الرعب، والقضايا الهائمة، ووقائعها، كما يحدث ذلك في أية حرب عبرت على لبنان.
زياد كاج الأديب والشاعر والإعلامي، يثير في روايته مسائل تدعو إلى الإستغراب.. فكيف لشعب يخرج من الحرب إلى الحرب، فتستمر حياته كما لو أن الحرب لم تندلع.. وكأن النكران أصبح أسلوب عيشه. شعب خاض معارك الإقتتال الطائفي ونجا منها من دون عبرة، فأكمل طريقه، يرتاد المقاهي، ويشتري السيارات، وكل ما حوله ينهار فوق رأسه.
في بال الإعلامي والكاتب والشاعر، زياد كاج، أن شيئا ما ليس في محله، وينبغي الكتابة عنه. وقد شكّلت العقود الأربعة التي مرَّت، ما يشبه «المخاض»، بحيث جعله يرصد سوريالية اللبناني الراقص، حول الموت، أو حول «البلد الراقص» تحت البركان، يسمع هديره، ويسمع حمظه، دون أن يبالي بشيء.
إن الحياة اليومية العبثية، هي ما كانت تحرّض زياد كاج على الكتابة. فقد ورّطه المشهد اللبناني المتوغل في العدم، بتوثيق، كثافة المشهد اللبناني حقبة حقبة وفصلا فصلا، وصولا إلى البرهة المأساوية التي نعيشها.
فزياد كاج، في روايته هذه التي بين يدينا، إنما يعاين التوحش. إذ الكاتب شاهد على عصره، وعلى التراجيديا اليومية، المحلية والكونية. وهو يعيد كتابة التاريخ اللبناني، بعيدا عن الأسطورة المدوّنة في الكتاب المدرسي. كما يعيد كتابة الأخلاق، بعيدا عن دروس الأخلاق المدرسية، وبعيدا عن كتاب التنشئة المدنية والتنشئة الوطنية.
زياد كاج، الإعلامي منذ عقود، والأديب والشاعر والمبدع، منذ نعومة أظفاره، يزاوله قلقا حادا إذا ما إبتعد عن الكتابة، أمام فظاعة واقع مثل هذا الواقع اللبناني الذي عايشه، ونعايشه معه، على أية حال.
ربما كان يحتاج الإعلامي إلى الخيال، حتى يأتي بمدونة «مونداي مورنينغ»، غير أن المادة التي تجمعت لديه، طيلة ثلث قرن أو يزيد، أرغمته على الإتجاه مباشرة نحو وصف الواقع. ولو أنه من المستحيل على أديب مثله، أن يعيش بلا خيال، ذلك أنه جوهر ما أتى به في هذه الرواية. ولا يمكن فهم الواقع، من دون فهم تشعباته عن طريق التخيّل، لأنه في معاينته الصحفية، يكتب الواقع من خلال مخيّلة الأديب، بل الشاعر الفذّ، ليعطيه معنى. على الرغم من أنه يقول في قرارة نفسه: أن أهم ما في الأدب، هو أن نكتب بصدق. فالكاتب في بلدان اللهب، لا يملك ترف الكتابة عن شجرة راسخة تزيّنها الثمار، ولا عن غابة مفتوحة على الدهشة، لأن غاية الكتابة إنما هي التعرية ونبش الأعماق. وأن كل ما حول الإنسان، إنما هو جزء من مساره الوجودي. وهذا هو سر «معجز كاج»، في روايته الأثيرة التي بين يدينا.

أستاذ في الجامعة اللبنانية