بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 آب 2022 12:00ص شـيـطـنـة لـبـنـان

حجم الخط
من يحلُّ هذه المشكلة الجديدة في لبنان؟ من يحلّ هذه المشكلة الطارئة؟ من يحلّ هذه المشكلة العامة، التي أصابت جميع اللبنانيين، وجميع من هم نزحوا أو لجأوا أو اختبأوا أو أقاموا في لبنان، تحت عيون الدولة، أو خفية عن عيون الدولة، على أرض الدولة؟ من يحلّ المشكلة التي وقعت لجميع حديثي الولادة في لبنان، نعم لحديثي الولادات، ومن ولدوا أيضا، منذ الإحصاء العام في لبنان، في الثلاثينات؟
شهران على حرمان كل مولود جديد في لبنان، وعلى أرض لبنان، من وثيقة ولادة. هذا يعني أن لبنان، ساوى بين جميع سكانه، من حيث حرمان أطفال الولادات الحديثة، من الحصول على وثيقة ولادة، تثبت هويته الأصلية. فلم يعد هناك لبناني أو غير لبناني. لم يعد يعرف الأصيل من الدخيل. لم يعد يعرف إبن البلد، من الطارئين على البلد. عمّت الفوضى أسرة الولادات وأراجيحها، صاروا جميعا في الهمّ سواء.
تتراكم الولادات الحديثة، بشهادات تالفة من المستشفيات والمستوصفات، وبشهادات تالفة من القابلات القانونيات، وحتى من «الداية القروية»، أو حتى من دايات الزقاقات والعشوائيات والأحياء الفقيرة، وأحزمة البؤس في ضواحي المدينة، مثل الجراء.
تتراكم هذه الولادات في دفاتر هؤلاء جميعا، فوق بعضها البعض. ولا تجد طريقها إلى القيود في دوائر النفوس، لأنها أغلقت أبوابها، أغلقت شبابيكها منذ شهرين. يدخل إليها الموظف خلسة، بعد حصوله على «المعلوم»، يضع عليها الأختام، ويخرجها بلا تواقيع، لأن الموظفين مضربون منذ شهر أو أكثر، وربما يمتد إضرابهم ويشتدّ، ما دام لبنان، قد دخل في «عناد الثلاثة رؤساء»، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين.
يفتح هذا التأخير، في قيود تسجيل الولادات الحديثة، باب تزوير الولادات، باب تهريب المعاملات، باب الغش في هذه الخانة أو تلك، باب عجز الدوائر عن النظر في هذا الجبل المتراكم من المعاملات، حين تصير المعاملة مدسوسة دسّا، حين تصير المعاملة مثل أوراق النفايات، مثل «الحفاضات» البالية على الطرقات.
جميع دوائر النفوس مغلقة، منذ شهرين وربما منذ عام وأكثر، حين اختفت الطوابع، وحين اختفت إخراجات القيد، وحين صار الطلب يزداد عليها، وصار تأجيلها لا يطاق، فصارت الطلبات زائدة عن الموجودات، فهجر الموظف وظيفته، ولم يعد بإمكانه تلبية الطلبات.
اندفع اللبنانيون وسكان لبنان عموما من النازحين واللاجئين والسكان الكرام، والنزل الكريم، للهجرة والمغادرة، طلبا للعلم والعمل في الخارج، بعدما أطبقت عليهم التصريحات، والتصريحات التي ترد على التصريحات. وصار إزدياد الطلب على وثائق الولادات، الحديثة منها والقديمة، وحتى تلك التي تعود لأعوام الإحصاء في الأربعينات.
صار الناس أصحاب حاجات.. يقرعون أبواب دوائر النفوس، أبواب وزارة الداخلية.. يتعلقون بأذيال هذا المسؤول أو غيره، يناشدون سائقي الوزراء والنواب وأصحاب المناصب الرفيعة، بالمال والأخلاق والحسب والنسب والشرف الرفيع، الذي أريقت عليه الدماء. وكذلك بالأخوية والأغوية والباشوية، يطرقون باب منزله، يقولون له: «يا قاضي الحاجات»!
هاجر الناس وما ارتاحوا، تركوا الوطن والأهل، ليرتاحوا، فما ارتاحوا. دفعوا الغالي والرخيص، ثم دفعوا ثمن تذكرة سفر، ثمن إقامة مؤقتة. ثمن إقامة عمل، وما ارتاحوا. وها هم يطلبون اليوم، لا جواز السفر وحسب، ولا تذكرة الهوية، ولا حتى إخراج القيد، ولا حتى السجل العدلي، يطلبون منهم وثيقة الولادة، لحديث الولادة. ولعتيق الولادة، لا فرق. ولا يعرفون أن البلاد غيّرت طبيعتها، غيّرت طبائعها، عرّتهم من المعاني التي يزخر بها الإجتماع، ما دامت أملاكهم محجوزة، وأوراقهم محجوزة، وأموالهم محجوزة، ورواتبهم محجوزة، وصاروا هم أنفسهم من محجوزات السجلات.
شيطنة لبنان، صارت في حسابات جميع الأمم، صارت في حسابات جميع الدول، يحاسبون أهل هذا البلد في السر، وربما أيضا في العلن على شيطنة البلد. لم يعد هناك من يثق بالوثائق. صارت جميع هذه الوثائق، بإعتبارهم، مزوّرة. صاروا يطلبون العودة إلى الوثائق القديمة، ويخضعونها لـ«فحص القدامة»، حتى لا يمرّ عليهم «زور العصرنة»، وحتى لا يجري عليها السلاح، ولا تزوير العصرنة بالمال أو بالسلاح، أو بالضرورات السياسية الطبيعية لأن لبنان دخل في حساباتهم، عصر الشيطنة.
كان لا ينقصنا، إلا إضراب الموظفين في القطاع العام، حتى يتحدث القاصي والداني عن «شيطنة لبنان». فما عادت الدول، تحترم وثائقه، وما عادت تحترم دفاتره، وما عادت تحترم إداراته. وهي أصلا، لم تعد تحترم وزاراته ولا وزراءه ولا نوابه ولا رؤساءه. صار لبنان في نظر الأمم، وفي نظر الدول، خارج المؤسسات الضامنة، وخارج المكاتب والمعاهدات والصناديق، التي ترعى شؤون الأمم. لأن لبنان، لم يعد تحت رعاية القانون، بل صار تحت رعاية الطبيعة السياسية المستجدة في الحياة.
يتأخّر لبنان كل يوم، يتأخّر لبنان يوما بعد يوم.. ما عاد ذلك البلد الوادع، وما عاد أهله من الذخائر والودائع. سقطت أجهزته كلها، بعدما دخل عصر الشيطنة، بعدما دخل حقل الشيطنة. صارت الأمم، كما الدول، تظنه من عمل شيطان رجيم، تخشى من أن يصيبها رجسه، ورجس أبنائه، كما رجس سكانه، بعدما توالى حكامه، وحكام حكامه، على شيطنته، منذ عقود وعقود.
شيطنة لبنان، كان لا ينقصها، إلا إضراب القطاع العام. فصارت الأمم، كما الدول، تخشى على نفسها، من أن تصاب بمسّ لبنان، بمسّ يصيبها من لبنان. فأقسى ما تعاني منه أمم الأرض، حين لم تعد تثق ببلد من البلدان.

أستاذ في الجامعة اللبنانية