بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 آذار 2024 12:00ص طليس والأسئلة القلقة

حجم الخط
«ما معنى أن يرتضي كبار الماضي القريب في الحداثة الشعرية أن يجلسوا إلى طاولة واحدة، بعضهم مع بعضهم الآخر، لتشريح دواوينهم... بينما يختبئ الورثة الشرعيون... وراء دواوينهم... ومن هو هذا الشاعر الذي يقبل أن اليوم، أن يناقش... وهل يتطور شاعر... بالوقوف أمام المرآة... ليقل لنا هؤلاء، ما هي الإضافة الشخصية التي قدمها كل منهم للشعر... لتقدير وتقييم حالهم... بدلا من إدّعاء العظمة وإقفال الأرض والمدى، بإرهاب من يتجرأ على قولة نقد؟».
توجس الخشية من الهبوط الأدبي، والخوف على مستقبل الشعر وإضطراب النقد حوله، لما يستدعي النقاد خصوصا، والقرّاء عموما، على طرح الأسئلة القلقة، للإطمئنان عن حالة الغليان عادة، وتحاشي أن تصيب عين الشعر، فتلحق به الأذى، وتضيره، إن لم نقل إنها تضرّه، ونحن في أحلك السويعات، حاجة إليه، لإستفتائه على أحوال الناس وهمومهم، وما يصابون به على حين غرة، وما يفجأهم به، ويفاجئهم، ويحيل السكون والهناءة إلى القلق والإضطراب.
هذه هي حال الشاعر والناقد والإعلامي، الأستاذ عبد الغني طليس، وهو ينسل وينسج مراجعاته حول الشعر والشعراء، في مدونته الأخيرة التي صدرت له:
«لحظة... يا زعماء الشعر! - زمكان - بيروت، 2024: 154ص».
بأسلوبية بسيطة، معتادة، على الشاشات التي تفرد فقرات أو برامج للأدب والفن، أو على نافذته التي يطلّ منها أسبوعيا من تلفزيون لبنان، يبوح لنا الأستاذ عبد الغني طليس، بما يعتمل في صدره من الخوف على مستقبل الشعر، وهو يرى إلى من حوله من الشعراء والأدباء، بشكوكه المعتادة والقلقة التي يحاصرهم بها، ويستفزهم أحيانا كثيرة، أو في كل الأحيان، لكي يحوّلوا المسألة الشعرية اليوم إلى قضية وطنية، قضية قومية، قضية إنسانية، قضية كيانية، لئلا يموتون بها، وتقتلهم، قبل إذ هم يقتلون بها.
في مقدمة الكتاب، يجيب المؤلف عن سؤالين هامين، في صفحة واحدة، (يقول من الآخر):
1- «لحظة... يا زعماء الشعر»، نصوص نقدية تريد أن تستقطع وقتا من الشعراء العرب لتناقش بعض كبار... إذن هو حكم على التاريخ الشعري، لا (سيرة الحياة).
2- وحين يقول أيضا:
«الشعر هو لغة متقنة حساسة في المنزلة الأولى... يرافقها الخيال الخصب المجنّح الذي يحط في المنزلة الثانية... بمعنى: اللغة ثم الخيال، ثم التجربة الذاتية بالمعنى الجديد. ثم الذكاء الفني».
فإذا ما كانت الإجابة الأولى شديدة الخصوصية، في الإنتقاء والإختيار والتمايز في الإنتخاب والمفاضلة بين الشعراء، فإن الإجابة الثانية، تلتقي مع ما يقوله الناقد الإنكليزي كولرج في كتابه الأثير «الخيال الشعري»: الشعر نتاج الخيالين: الأولي والثانوي. الخيال الأولي شركة بين الناس جميعا. والخيال الثانوي، خاص بالشعراء. والأستاذ عبد الغني طليس، لا يشذ عن تعريف «كولرج» للشعر، بل يسير على هدي من نهجه.
يقدم الأستاذ طليس شهادتين على قضية واحدة/ قضية الشعر:
شهادة على فاعلية الشعراء السابقين، بالجملة، وشهادة على فاعلية الشعراء المعاصرين. يستل من دواوينهم ومن دنانهم، روح الشعر. ثم إذ هو ينظر متأنّيا، ينتظر ألا يجازف بالتهوين ولا بالإستخفاف، وإنما بالخوف على الشعر نفسه. فليست له قضية شخصية مع أحد منهم، غير أنه إبتلي بهم، مما جعله يرى نفسه، أنه أعظم الناس همّا بالشعر. ولهذا، نراه يطرح أسئلة، هي حقا قلقة ومقلقة في آن. فيصيب حظا من القدماء والسابقين. ويذهب بعد ذلك لشك رمحه في ساحة الشعراء المجايلين. لا يستهدف أحدا بصورة شخصية، وإنما غرضه أن يصوّب المسار الشعري، ويعطف به عن سوء المسير والمصير، حتى لا تقع الكارثة الشعرية.
يشعر عبد الغني طليس، أنه مؤتمن على الشعر، وهذا حقه. وهو من هذه الزاوية يبادر، لإماطة اللثام، عما يقع للشعر من المقاتل والأوهام.
يتحدث عن المتنبي، وكأنه يستضيفه على شاشته، أو على صفحته لا فرق. ثم هو يتبع الطريقة نفسها، مع أبي فراس الحمداني وأحمد شوقي ونزار قباني وأدونيس وسعيد عقل وأنسي الحاج ومحمود درويش وبدر شاكر السياب. ثم ينعطف قليلا، لـ«مناغشة» الفنان مارسيل خليفة، لصلته الفنية، بثلّة من هؤلاء الشعراء، وتبادل الأثر والتأثير بينه وبينهم. ويصارحنا بقضيتين تصوّبان هدفه، إن لم نقل أهدافه بالجملة:
1- علاقة الكتّاب والفنانين بالنقاد، وما إذا كانت هي علاقة الجثث بالمقبرة، أم علاقة الرجال بالمجزرة؟
2- ثورة مجلة «شعر»، وكيف أكلت أبنائها، ثم أكملت على الأحفاد، لتكون في خواتيم فقرته كالمعتاد، صرخته المدوية: أخرجوا من أوكاركم أيها «الشعراء»؟. ويأخذ بهم إلى زنزانة الإتهام بين قابستين، لظنه بهم.
«يختبئ «شعراء»، لا يستطيعون إبتكار لغة خاصة بهم، خلف شاعر كبير، (أو أكثر) صنع لغته وزرعها في الحاضر، وأثر في من حوله. و«يكتبون» من مفردات ذلك الشاعر وتركيباته وعوالمه، ويستحضرون ذهنيا عند الإمساك بالقلم والورقة أو الكومبيوتر. ولكي يكتمل «النقل بالزعرور»، يستعيرون صوته في الإلقاء، ويتخيّلون أنفسهم يصوّتون مثله لإكتمال عدة «الشغل»، تماما كحالة التمثيل. وعند السؤال يجيبون متباهين أنهم تأثّروا بفلان، ويشرّفهم أنهم من مدرسته! لكن الأدهى هو جنوحهم إلى إعتبار أنفسهم يضيفون إلى مدرسة الشاعر ولا يقلّدونها، ويقدمون نماذج من تلك «الإضافات» التي لا تقنع أحدا، بل تستجلب الضحك!
 أستاذ في الجامعة اللبنانية