بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 حزيران 2023 12:00ص عربة صنبور الكاز

حجم الخط
قبيل ظهيرة البارحة بقليل، رأيتني في شارع الإستقلال ببيروت، كنت في طريق عودتي من البسطا الفوقا، حيث دكان الإسكافي العتقجي العتيق والعريق أبو خضر، في نزلة ثكنة فتح الله، قصدته صبيحة ذلك اليوم، لخياطة نعلتي حذائي، بعد يوم سابق من اللف والدوران في محيط الحمرا، قطعته بحثا عن إسكافي، تتوافر عنده مكنة كوع لدرز نعال الأحذية المفتقة.
ثلاث طرائف، أفدتها من حديث المعلم أبو خضر معي، حين رآني أضع صحيفتي وبعض قراطيسي العتيقة على المقعد، وألقي بنفسي على كرسي مهجور في دكان مهجورة، تحت ثكنة فتح الله.
إنتبهت إليه، أنه ترك على المقعد، الشقفة الأخيرة من لفلوفة الزعتر التي كان يأكلها، وسارع إلى عمله وراء مكنة الكوع، بعد أن قال لي، إنه يريد أربعين ألفا، لأن الدولار صار في الخمسين. فوافقته على الفور، قبل أن يعرف أن الدولار تخطى الثمانين. وصار يردد بيت زهير في أسواق الصرف:
إن الثمانين وقد بلغتها/ قد أحوجت قلبي إلى ترجماني
إلتفت إليّ المعلم أبو خضر، سألني في الوقت المستقطع، بين معالجة الحذاء، والإنتظار قليلا، ريثما ينشف الصمغ، عن نعلتي، قلت له: إني متقاعد. قال: أسألك عن شغلك قبل التقاعد. تهيّبت أن أقول له: 42 سنة فقط، تعليم في الجامعة اللبنانية. فقلت: مدرّس. قال لي: إبني دكتور في الجامعة اللبنانية في كلية العلوم. وإبني الآخر دكتور في كلية الآداب. وراتب واحدهما، لا يزيد عن90 دولارا. أما كبير أولادي، فهو يعمل مثلي، له دكان في بربور، وهو يحمل كل يوم لبيته، زهاء الثمانين دولارا. فقلت في نفسي: الصمت منجاة، خشية البهدلة في الهزيع الأخير من العمر. شكرت المعلم أبو خضر، ومشيت متوجها إلى دارة أبو علي سلام، ومن هناك إلى شارع مار إلياس، أرجي الغنيمة في الإياب. فوجدت نفسي، في وسط شارع الإستقلال، قبالة نزلة الحص، حيث يسكن الرئيس الحص هناك في الطبقة الخامسة من إحدى البنايات، على يمين النازل من تلة الدروز، قبالة محطة البنزين، وتحته بعض المحلات الهالكة، عن اليمين وعن الشمال، ومن قدام، ومن خلف.
في نزلة الحص، من شارع الإستقلال، رأيته هو.. هو.. صنبور الكاز، عربة هالكة، يجرّها بغل يكابد الجوع، يعتليه شاب لم يشب بعد، تحمل صنبور الكاز الذي كنت رأيته آخر مرة، في حرب السنتين، يعبر فوق جسر الكرنتينا، قادما من «الغربية» إلى محلة برج حمود في «الشرقية»، فكانت له بالمرصاد، رصاصة قناص، فهوى صاحبه عن ظهره، وشردت العربة في الطريق، ومعها شرد البغل، ضاع في أوراق الحرب التي تستعاد الآن، في صورة حرب مستجدة على المصارف، من أطراف جدد في وقعة بدارو.
طنبور الكاز، في شارع الإستقلال اليوم، ذكّرني بحرب السنتين التي طويت، ذكّرني بطنبور الكاز الذي هَوَى برصاصة قناص في محلة برج حمود. قلت في نفسي: بوادر حرب فعلية في بدارو، وعودة طنبور الكاز مجددا إلى الشارع، وأي شارع، شارع الاستقلال، الذي لا يتسع في مثل هذه الظهيرة الحاشدة بالسيارات، لطنبور الكاز يجرّه بغل ويوجهه غلام. فهل يتسارع الزمن قليلا، ويبدأ الصدام؟!
كل ذلك، كان من علامات الطريق، بين البسطا الفوقا والمصيطبة، وشارع الاستقلال وطنبور الكاز في وسطه، والغلام الذي يقود جماعة الهجوم على البنوك والمصارف في محلة بدارو، بدل محلة برج حمود.. كأن الزمان يعود بنا سريعا إلى الوراء.. كأن البلاد، مجددا إلى التفكك.. كأن الحرب التي كانت قد وقعت أمس، سوف تقع غدا.. فآهٍ وألف آه، من البغل والعربة والسائس، وصنبور الكاز مجددا.. آه مجددا من غدر الزمان وأخوته وأخواته.

أستاذ في الجامعة اللبنانية