بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 حزيران 2023 12:00ص علوية صبح في «إفرح يا قلبي»: كرونولوجيا الوعاء العائلي

غلاف الرواية غلاف الرواية
حجم الخط
لا أبحث عن الحقيقة، فهذا من درس الفلسفة، ولا شأن لي به ها هنا. كذلك لا أريد الإثبات الروائي، فهو ليس من غايات هذه المراجعة البسيطة. ولا أريد، فوق هذا وذاك، أن أمايز بين الشروط الفنية للعمل الفني، والصدقية التي يبغيها، الكاتب في أي عمل من أعماله، أو أن أمايز، بين الخطأ والصواب، في تتبع أعمال الكتّاب. غير أني، سأكون أمام الباب المغلق، الذي يريد جميع النقاد وجميع القرّاء وجميع الأدباء والشعراء، أن يدخلوا من كوة له، ليقفوا على العجائب. ذلك لأن العمل الروائي برأيي، إنما هو أشبه بصندوقة العجائب، حيث الحقائق والأساطير والعقائد والأخطاء والديانات والرغبات والشهوات والغرائز والدماء التي سالت على المذابح جميعها. ففي العمل الروائي، نكون مع المتخيّل، لا المكرّس، لا المقدس. إنه الطوف الحقيقي العظيم، المغامر بكل شيء، لأجل التعبير عن بينونة، لأجل التعبير عن كينونة. إنه الطواف الروائي الراقي، بين أقنومين قديمين: الموت والحياة، لا الحياة والموت كمصائر الخلق. لأن الروائي، ينحو نحو المعاكسة والمخالفة يبحث في الترب، عن بذور الإنبعاث. يبحث في الإنسان الوحش، عن إنسانية غامضة، بعيد دفنه في التراب.
مذهب علوية صبح: (إفرح يا قلبي. دار الآداب. بيروت. ط. أولى. 2022: 350 ص. تقريبا)، إنما هو هذا المذهب. تبتعد عن السرديات القاتلة للعمل الروائي، لتجعله أجدر بالقراءة، لتجعله أغنى، لتجعله أرقى، لأن المتخيّل، فيه منفوح القداسوي، لا المقدس. وهي بذلك، تكسر الرتابة، وتتمايز عن الروائيين الذين يرسمون الدروب مسبقا، ثم يمضون وقتهم، في الشتل وفي الغرس، وفي التسوير، وفي التصوير، وفي رصف المداميك، التي كلما أعلوها، سرعان ما تهدمها الزلازل النفسية، وترميها في الأرض.
تبدو لنا الأديبة، في عملها الروائي، كغواص في عمق البحر، يجوس القاع، بحثا عن الدرّ، بل عن الدرّة العظمى. ولا أراني أجد إلا المساحة الشاسعة التي تقطعها. كذا لا أراني أقع، إلا على الحكمة، على الفلسفة، على الثورة النائمة في أحضان ثعابين الخيال.
لا يعجزها التغلب على الأسئلة الوجودية، ولا الأسئلة الدينية ولا الأسئلة الحياتية والمجتمعية، بل يعجزها دوما رزم الأسئلة التي تكون قد حضرتها لنفسها، من خلال معاقرة العيش في الأحضان العائلية، بل في الحضن، بل الحصن العائلي. لذا أجد المسوغات الكثيرة، التي تقرب لي عملها كوعاء عائلي، تتخالط فيه الأسرار، تتعثر ببنيات الطريق، يتعادل فيها النبع والنهر والبحر، ومائه مراقة، تطفّلت على جانبي الطريق، فشفت عن وجودية عظيمة، في وعاء عائلي بسيط. 
لا أعرف ما حدود هذا الوعاء الذي أتاح لها، أن تغرف منه الكنز الروائي، إلا على أنه وعاء عائلي، هو عمومي الوجود، غير أن علوية صبح جعلت منه وعاء مسحورا، وعاء سحريا، وعاء سريا، وعاء ثريا.. ولو أنها وشت به، أنه وعاء عادي عائلي. غير مصنوع من عادياتها، التي جعلتها في خزانتها الثقافية.
رواية «إفرح يا قلبي»، بالرغم مما تشي به من غنائية، وبالرغم مما تفتتح به من شعرية، وبالرغم مما تتقمصه من واقعية، إنما هي عمل فني متنامٍ بطول الأرض وعرضها، بدن عروس من الجن، ينبض، على إيقاع متكامل، يشكّل وحدة بنيانه الهرمي، ووحدة مضمونه العائلي. ثم لترى الأديبة ترقى به، إلى نسيج من الأدب الإنساني الراقي، الذي يكمل تجديفه حتى الهتك بالموانئ وبالمقدسات على حد سواء. إنه الإيقاع الروائي المزدوج، الذي يوالف بين التوافه والمآثر، بين المندثر والمشع، بين الحقير والخطير. فعلوية صبح، كاتبة المفاجآت، بقلم من الحبر السري، بقلم من تحت مخدة الموت السريري، الذي يؤول إلى البعث، إلى ورود الإنبعاث.
ما يتراءى للقارئ المتعجل، على أنه فوضى روائية في السرد، وفي التأليف، وفي البناء الروائي بعامة، تدحضه هاتيك الكرونولجيا المتسلسلة، في تتبع المسارات، في تتبع الأحداث، في تتبع المقالات، فمن عادات الأديبة علوية، أن تعود من البحر، حيث مصب النهر، إلى الينابيع، حيث تفاجئك، وأنت تحتار في إختيار الدروب التي تريد أن تسلكها، للوصول إلى الخواتيم. وحدها المسارات الزمانية، تحدد لك معالم الدروب، لأن روايتها، التي تتبيأها، إنما إعتادت صحبة الزمان، لا إصطحاب الأمكنة. إنه السفر العائلي، على ظهر قضيب ناهض إلى القبة، حيث الفضاوات والثريات والأحلام والمجرات. حيث الركون الأخير في قعر المهاد، تحضيرا للولادات الثانية.
عالم مدهش، هو عالم، علوية صبح. خلية نحل، واظبت على صنعانها، فبات من صنعة الجن، كما يقول كل من يعود لقراءة عملها، مرة تلو مرة. حيث إبتكارات القراءات، تتآزر مع إبتكارات الكتابات. توليف مدهش، هو هذا الوعاء العائلي الجامع في برهاته كلها، بين السفيف واللطيف. أوليس هكذا كانت تبنى الأهرامات، أو هكذا كانت تبنى الإهراءات، أو هكذا كانت تبنى صوامع القمح، قبل إنفجار القمحة، دمعة سنبل تحت رحى، قبل شيّها بالنار؟!
بحث مضنٍ، أن يشقى القارئ في تحري الحقيقة، في رواية علوية صبح: «إفرح يا قلبي». ذلك أنها لم تذهب في روايتها، للبحث عن الحقائق، وتقدم لها كسوتها، حتى تصير من الكعبات، من صوامع العبادات، وإنما كان شأنها، أن تصطحبنا إلى الضفاف، نقف معها هناك، ونمضي وقتنا في التحديق، في الأرض. نمضي وقتنا في التحديق في السماء. نقطع الوقت في التأمل، بشأن هذا الخلق كله، الذي هو حظوتنا من الوعاء العائلي، في كرونولوجية تنساب، من أول النطفة، إلى عمق الحفرة، إلى شتول الزهر والورد، إلى جمر الإنبعاث، أم إلى دفئه... لا فرق!

أستاذ في الجامعة اللبنانية