بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 شباط 2020 12:00ص «عمر الزعني».. رسالة صداقةٍ وعرض لرأي (1)

تكريماً للذكرى السنوية التاسعة والخمسين لوفاة شاعر الشعب

شاعر الشعب عمر الزعني شاعر الشعب عمر الزعني
حجم الخط
«عُمَر الزّعِنِّي» صَدِيقي، بَلْ وَصَديقي العَزيز؛ وكيفَ لا، ومعه بدأتُ أوَّل خطواتٍ لي في دُنيا البحثِ الأكَّاديميِّ والنَّشاطاتِ الأدبِيَّةِ ومجالات الثَّقافةِ العامَّةِ، منذ سنة 1973 وحتَّى اللَّحظة؟!

يَشْهَدُ اللهُ، أنَّ «الزّعِنِّي» لَمْ يَعْرِفْنِي ولَمْ يَرَنِي، بَلْ وَلَمْ أخطُرْ على بالِهِ طوال سِنِيِّ حياتِه، مُنْذُ أنْ وُلِدَ في مدينةِ «بيروت» سنة 1895، إلى أنْ توفَّىَ فيها ودُفِنَ في ثراها سنة 1961. لقد كنتُ في سنة 1961، تلميذاً، غَضَّ الأَهابِ في مرحلةِ «الدِّراسةِ المتوسِّطةِ»؛ ولم تكن لهذا «التِّلميذ»، ابن الثَّانية عشرة من سِنِيِّ العمر، علاقةً مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ بأجواءِ «الزّعِنِّي». ومَع هذا، فَأنِّي مُصِرٌّ على أنَّ «عُمَر» هُوَ صديقي، وصديقي العزيز جِدَّاً؛ بَلْ صديقي الذي لَمْ يَخْذُلْني وَلَوْ لِمَرَّةٍ واحِدَةٍ في جميعِ سِنين حَياتي ومَراحِلِها، والذي ظلَّت شخصيَّته وأشعارُه مفتاحَ معرفةٍ وسعادةٍ وفرحٍ وإلهامٍ لي طوالَ سنواتٍ بدأتْ ولمَّا تَنْتَه. إنَّها صداقةٌ بين واحدٍ مِن أبناءِ الشَّعبِ وبين «شاعِر الشَّعبِ»؛ فلا عَجَبَ في الأمرِ ولا غرابةَ، بل هو الحَقُّ كلُّ الحقِّ.

«عُمَر الزّعِنِّي» هذا، لا يمكن أن أتخيَّله، إلاَّ وفي البال فكرةُ «الالتزام»؛ الالتزامُ بين ابن الشَّعب وشعبه، والإمعانُ الواعي في هذا الالتزام إلى أقصى ما فيهِ من أبعادٍ وحدودٍ ومفاهيم! لقد اختار «عُمَر الزّعِنِّي» أن يكون شاعِر الشَّعبِ، فالقضيَّة عنده أبعد من كونها لَقَباً أو صِفةً؛ إنَّها مهمَّة وواجبٌ كان يُصِرُّ على القيام بهما، والوفاءِ بكلِّ مستلزماتهما. واقعُ الحالِ، إنَّ أحداً لَمْ يُطْلِقْ لَقَبَ «شاعر الشَّعب» على «عُمَر الزّعِنِّي»، بل هو الذي اختار اللَّقب لنفسه، دوراً ثقافيَّاً واجتماعيَّاً، يقومُ به؛ وسط بيئةٍ تشكو مِن نقصٍ كبيرٍ في التَّواصلِ الحقيقيِّ والفاعِلِ حقَّاً بين مختلفِ طبقاتِها وفئاتِها. ولعلَّ تثبيتَ هذا الاختيار وتأكيده والإصرار عليه، يبدو جليَّاً في كلام الزعني نفسه في قصيدة «عَرَّمْ يا فْرَنْك» التي أذاعها سنة 1936؛ وفيها يقول:

« أنا رافع راية أوطاني

أنا شاعر الشعب المتألم»

ومع الممارسة الصَّادقة، أضحى الدَّور جزءاً لا انفصام له عن صاحِبِه؛ وباتَ «شاعِرُ الشَّعبِ» اسماً رديفاً لـ «عُمَر الزّعِنِّي».

اليوم، وبعد مرور تِسْعٍ وخمسين سنةٍ على وفاة «عُمَر الزّعِنِّي»، فإنَّ النَّاس ما زالوا يطلِقون على «عُمَر الزّعِنِّي» لَقَبَ «شاعِر الشَّعب»! ويا لها مِنْ كلمةٍ، ويا لَهُ من لَقَبٍ؛ بل يا لها مِنْ رُتْبَةٍ لا أَذْكُرُ أنَّ أحداً، سوى «الزّعِنِّي»، قد حَظِيَ بها في لُبنان. لقد رَبَطَ النَّاسُ، في مسيرةِ الشِّعرِ العربيِّ، بعضَ الشُّعراءِ بالحاكِم أو عِلْيَة القَوْم؛ فقالوا «شاعر الخليفة» أو «شاعِر الوالي» أو «شاعِر الأمير»؛ كما رَبَطَ النَّاسُ، أيضاً، بين «الشَّاعِرِ» والجغرافيا، فإذا بنا، وعلى سبيل المِثال، نسمعُ بـ «شاعر النِّيل» و«شاعِر القُطرين» و«شاعِر الأرز»؛ لكن، ومَع «عُمَر الزّعِنِّي»، فإنَّ الرَّبطَ كانَ بينَ «الشَّاعرِ» و«الشَّعب»؛ ولا أعلمُ أنَّ تاريخَ الأدبِ العَربِيِّ قد أَثْبَتَ هذه الصِّفة/ الرُّتبة على أحدٍ من قبل «عُمَر الزّعِنِّي»؛ ولا أعتقدُ، ونحنُ اليومَ في خِضّمِّ أمواجٍ صاخِبَةٍ ضمن بحارِ النِّضال الشَّعبيِّ، أنًّ أحداً جَرُؤَ على إطلاقِها على أَحَدٍ بَعْدَ «عُمَر الزّعِنِّي». لقد أثبتَ هذا الواقِعُ الحَيُّ، مِن خِلالِ هذا الفِعلِ، وعَبْرِ وجودِ «عُمَر الزّعِنِّي» وتراثِهِ وعُمْقِ تجربتِهِ، أنَّ للشَّعبِ الحقَّ، بل كلَّ الحقِّ، في أن يكون له شاعره الخاصّ، وصوته المدويِّ، ومنبره الأسمى؛ ولذا، ولأنِّي واحدٌ مِنْ أبناءِ هذا الشَّعبِ، فإنَّ شاعر الشَّعب، «عُمَر الزّعِنِّي»، هو صديقي، وصديقي العزيز، بل وصديقي الأَوْفى.

تَرْوي حكايةُ «عُمَر الزّعِنِّي»، مع الشِّعرِ والنَّاسِ، تجربةَ مثقَّفٍ راقٍ؛ أَصَرَّ على أنْ يَنْدَمِجَ مَع كلِّ قطاعاتِ شَعْبِه؛ لكِن مِن دونِ أنْ يفقدَ، بهذا الاندماجِ، قدراتِهِ الرِّياديِّة في العطاء والقيادة! ويا لها مِن معادلةٍ صعبةٍ؛ أنْ تكونَ واحِداً مِنَ النَّاسِ، جَميعِ النَّاسِ، مُندمِجاً مَعْ كبيرِهِم وصغيرِهم؛ مُتمكِّناً، في الوقت عينه، مِنْ مخاطبةِ السَّاذجِ منهم والمفكِّر بينهم؛ بل وقادراً، كذلكَ، على المحافظةِ على رؤيتِكَ الرِّياديَّة مَغْ كلِّ هؤلاءِ، مِن دونِ أنْ تخونَ مبادئ ثقافتِكَ أو وَعْيِكَ الوَطَنِيِّ أو تُساوِمَ على أصالةِ لغتكَ أو صِحَّة التَّعبيرِ بها؛ أو، إن شِئْتَ، أنْ تَرْهُنَ تركيبتك النَّوعيَّة لصالحِ ظرفٍ آنِيٍّ، أو تخسرَ، في نهايةِ المطافِ، جماهيرك. إنَّها معادلةٌ معقَّدة، وعلاقةٌ وحسَّاسَةٌ وصعبةٌ؛ لا يتمكَّن من تحقيقها سوى «شاعِرُ شَعْبٍ»؛ ولذا، ما بَرِحَ «عُمَر الزّعِنِّي» وحده، منذ سنة 1922، ربما، وحتَّى اليوم، «شاعِرَ الشَّعب».

تبدأ الحكاية، في أنَّ «عُمَر الزّعِنِّي»، الشَّاب الطَّموح، الذي حاز سنة 1913 شهادة البكالوريا في العلوم والآداب، والضَّابط الإداريَّ في الجيش العُثمانيَّ إبَّان الحربِ العالميَّة الأولى، وطالب الحقوقِ في الجامعة اليسوعيَّة في بيروت، وأستاذ الأدب الفرنسي في الكليَّة العثمانيَّة والمدرسة الأهليَّة، والشَّريك الثَّالث في مكتب محاماة مع الأستاذين المحاميين «عمر فاخوري» و«صلاح الدّين اللَّبابيدي»، تَلْبَّسَهُ هاجسُ النَّاس؛ ورأى أنَّ كلَّ المعارف التي حازها، وجميعَ الوظائفِ التي مارَسَها، والمهام التي قام بها، يمكنُ لهُ أنْ يُعَبِّرَ عنها بشكلٍ أفضل وأجدى؛ وهكذا كان! 

انصرف «عُمَر الزّعِنِّي» إلى النَّاس، وتركَ التَّاريخ يبحث عنهم في رِحاب قصائده ومكنوناتِ شخصيَّته. ولا أظنُّ أنَّ هذا الأمر، كان في حياة «عُمَر الزّعِنِّي» وليدَ المِزاجِ الفَرْدِيِّ والرَّغبة الذَّاتيَّة وحدهما؛ واقعُ الأمرِ إنَّ «الزّعِنِّي»، فضلاً عمَّا كانَ في تكوينِهِ مِن مِزاجٍ شَخْصِيٍّ ومَوْهِبَةٍ فَذَّةٍ، فإنَّه كان ابْناً لِمؤسَّسَةٍ رائعِةٍ رائِدَةٍ قدَّمت للوطنِ كِباراً مِن الذينَ انصرفوا بِكُلِيَّتِهِم إلى تلبية هاجِسِ النَّاس هذا، أو الانخراطِ في الشَّأنِ العام والنِّضالِ مع الجماهيرِ، كما يقالُ اليومَ في التَّعبير المعاصر. فكان منهم الشَّهيد، وكان منهم الأديب، وكان منهم السِّياسي الفَذْ. أما المُؤسَّسة فهي «الكُليَّة العُثمانيَّةُ الإسلاميَّة»، لمؤسِّسها المُرَبِّي «الشِّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»؛ وأمَّا هؤلاءِ الكِبار، فَمِن أبرزهم الشُّهداء «عبد الغني العريسي» و«عمر حمد» و«محمد ومحمود المحمصاني»، والأديب والمُفكِّر «عمر فاخوري»، والسِّياسيَّان «رياض الصُّلح» و«عبد الله البافي»؛ تركيبةٌ تآلف فيها المِزاجُ والهوى الشَّخصيان مع تربيةٍ وتَنْشِئَةٍ صادقتين. وهكذا يُنْشِئُ الوَطَنُ قادَتَه ويرعى نهوضَ عباقِرَتِه؛ وهكذا كان «عُمَر الزّعِنِّي». فالزّعِنِّي إذن، التزَمَ عن وَعْيٍ، أو كما قد يقال، عن سابِقِ تَصَوُّرٍ وتَصميم؛ والالتزامُ، عنده، كان التِزاماً شموليَّاً في شخصيَّته ونتاجه.

لو حاول المرءُ أنْ يبحثَ عنِ مضمونِ الالتزامِ، في شعر «عُمَر الزّعِنِّي»، فلعلَّه لن يتمكَّن مِن تحديدِ عقيدةٍ سِياسيَّةٍ مُمَنْهَجَةٍ للرَّجلِ؛ واقعُ الحالِ، إنَّ الزّعِنِّي لَمْ يَكُنْ مُفَكِّراً سِياسِيَّاً، وهو أيضاً لَمْ يَهْوَ الانتماءَ إِلى الأحزابِ السِّياسيَّة. أمَّا تجربته مع «حِزب اللاَّمركزيَّة»، إبَّان دراسته في «الكليَّة العُثمانيَّة الإسلاميَّة»، فيبدو أنَّها محدودة؛ ولَمْ تتوافر، حتَّى الآن، مادَّةٌ معرفِيَّةٌ مُفَصَّلَةٌ عنها. لذا، يمكنُ القَوْلُ إنَّ «عُمَر الزّعِنِّي» اكتفى، مِثلَ كثيرٍ مِن النَّاسِ في محيطِهِ الاجتماعيِّ، ومِن مُثَقَّفي عَصْرِهِ خاصَّةً، بِقناعاتٍ سياسيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، كانت تقودُ خُطاهُ في مجال التَّفاعل مع الأحداث، وقد شكَّلت نِبراساً لِتَصَرُّفِه الوَطَنِيِّ العام. مِنْ هنا، يمكنُ للمرءِ أنْ يَعتبرَ «عُمَر الزّعِنِّي» مُثَقَّفَاً «لِيبراليَّاً»، سعى جَهده، لِأنْ يكونَ مُخْلِصاً لِشَعْبِهِ ومجتمعِهِ ورؤيتِهِ لمصلحةِ بِيئتِه؛ مِنْ خِلال أقصى ما لَدَيْهِ مِنْ إمكانيَّات الفِعل الأدبيِّ والعطاءِ الفَنِّيِّ والنَّشاط الاجتماعِيِّ والرَّأيِّ السِّياسيِّ. ولعلَّه، نَظراً إلى عدم ارتباطِ «عُمَر الزّعِنِّي» بأيِّ تفكيرٍ سياسيٍّ مُنتمٍ إلى حِزْبٍ مُعَيَّنٍ، فإنَّ أفضلَ ترجمةٍ تَوَصَّلَ إليها، لعلاقتِهِ بالجماهير، كانت في سَعْيِهِ الدَّؤوب لجعل صورة المعاناة اليوميَّة لأبناء الشَّعب أَشَدَّ وضوحاً ضمنَ الواقعِ المعيش، وأكثر التِحاماً به. ولعلَّ في تجربةِ «الزّعِنِّي» هذه، نقلة هامَّة في الفِعلِ الأدبيِّ لذلك العهد؛ وهذه النقلة تبيِّنُ فاعليَّةَ الانتقالِ بالكتابَةِ الفَنِيَّةِ الرُّومَنْسِيَّةِ الحالِمَةِ، أو تلكَ الغارِقة في الماضي، إلى رِحابِ الواقعيَّةِ الكاشِفَةِ والسَّاعِيَةِ إلى إِنارَةٍ للحاضر والماضي على حدٍّ سواء. وقد يكونُ صحيحاً أنَّ «الزّعِنّي» لَمْ يَصِلْ دائماً إلى طرحِ رؤىً سياسيَّة ذاتِ أبعادٍ يسارِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لكنه، من خلال واقعيَّتِهِ الجريئةِ في تصويرِ الحاضرِ، كانَ يدفعُ بالنَّاسِ، وبقوَّةٍ، إلى التَّفكير في هذا الحاضرِ والبحثِ عن حلول لمشاكله. وهكذا لَمْ يستطِعْ الفِكرُ السِّياسيُّ المباشِر أنْ يخترقَ قصائد الزّعِنِّي ويحوِّلها إلى نَوْعٍ من البيانات الحزبيَّة؛ بَيْدَ أنَّ الفِعلَ الحياتيَّ تحوَّلَ، في أعمالِ «عُمَر الزّعِنِّي»، إلى مُعاناةٍ إنسانيَّةٍ تنطلِقُ مِن الخاصِّ إلى العام، ومِنَ الفَرديِّ الذَّاتِيِّ إلى الإنسانِيِّ الشُّموليِّ وتظلُّ صادقةً حيَّة مُوحِيةً على مَرِّ السِّنين وتوالي الحِقب.

إنَّ محاولة هذه النّقلة، في الفعلِ الأدبيِّ المعاصر، تطلَّبت مِن «عُمَر الزّعِنِّي» وَعْياً خاصَّاً ومُمَيَّزاً لِفَهْمِ طبيعَةِ فاعلِيَّةِ الأدبِ والأديبِ؛ كما تطلَّبت، من «الزّعِنِّي»، جهداً واضحاً وجريئاً، على مستوى التِّقنيَّة الفنِيَّةِ، إنْ جاز التَّعبير. لقد اشتُهِرَ «عُمَر الزّعِنِّي» مِن خِلال قصائدِهِ التي كان يُنْشِدُها على المسارِحِ وعبرَ أثيرِ الإذاعاتِ وبالاسطوانات. وفي الحقيقةِ، لَمْ يكن للزّعِنِّي الصَّوت الرَّخِم الذي يمكن أنْ يضَعه في مصافِ المطربين؛ بيد أنَّ الرَّجل اعتمد الأغنية وسيلةً تَصِلُ من خلالها الكلمةُ المسؤولة، بصوتِ الشَّاعر بنفسه لا بواسطة مغنين يكون الإنشاد مهنتهم؛ ولعلَّ «عُمَر الزّعِنِّي» كان يعتقد أنَّ الشَّاعر هو مُغَنِّي الجماهير؛ الأمرُ الذي قد يُذكَّرُ بالشَّاعِر العربيِّ الأعشى، الذي يقال إنَّه كان يغنِّي بشِعْرِهِ، فسُمِيَ «صَنَّاجة العرب». أمَّا الأسلوب الفنيّ الذي كان يعبّر به «عُمَر الزّعِنِّي» عن أدبِهِ، فَمِن أبرزِ معالِمِه استخدامُ العربيَّةِ المحكِيَّة، وبالتَّحديد «المحكيَّة البيروتيَّة»، التي كانت بالنَّسبة إلى «عُمَر الزّعِنِّي»، «لغة الحياة اليوميَّة»؛ إنَّها محكيَّةُ البيئة التي عاش فيها؛ وقد استخدمها «الزّعِنِّي» في مختلف أساليبها ومستوياتها، من تعابيرِ المحيط البيروتي القديم، والمفرط في شعبيَّته، إلى الأسلوب الرَّاقي لهذه المحكيَّةِ أو ما يُعرف بمحكيَّةِ المكتب أو الصَّالون. كما حاول أنْ يستخدمَ العربيَّة الفصحى، وكأنها محكيَّةٌ شعبيَّة، أو هو حاول التَّوفيق بين المحكيَّة والفُصحى؛ فاعتمد، لذلك، فصحىً يخالُها مُتَلَقِّيها، لأوَّلِ وهلةٍ، عفويَّة؛ لكنَّها وليدةُ القصد والصَّنعة والبلاغة، إذ تبتعدُ عن التَقَعُّرِ والسُّوقيَّةِ في آن؛ ولا يخفى أنَّ «الزّعِنِّي» اعتمد أيضاً الأمثالَ والحِكم الشَّعبيَّة، أداةَ تعبيرٍ ومادَّة توصيلٍ في أعمالِهِ الأدبيَّة. وإذا كانت أعمال «عُمَر الزّعِنِّي» الأدبيَّة لَمْ تنماز بكثيرٍ من الزَّخرفةِ اللَّفظيَّة وأنواعِ البديع، فإنَّها تحلَّت باستخدامِ الرَّمز الفنِّيِّ. ويأتي الرَّمز، عند «الزّعِنِّي»، مُوِحياً بأبعادٍ كثيرةٍ ومنطلِقاً مِن واقع الحياةِ الشَّعبيَّةِ في آن؛ فرموز «عُمَر الزّعِنِّي»، لم تكن بعيدةً عن مُتناوَلِ إدراكِ الإنسانِ العاديِّ في معارفهِ وثقافَتِهِ وقدراتِهِ التَّحليليَّة؛ وكانت تساعد بالتَّالي، على توصيل الفكرة التي يبغيها الشَّاعِر. ولعلَّ «عُمَر الزّعِنِّي» آمن، ههنا، أنَّ الرَّمز في الشِّعر لا يكون ناجحاً إلا إذا كان تُراثيَّاً، شَعبيَّاً، قائماً في ضميرِ الأمَّةِ. ولَمْ يكتفِ «عُمَر الزّعِنِّي» بكلِّ هذا، بل كان لحركاتِهِ على المسرحِ أثرٌ فاعِلٌ في إعطاء الكلماتِ، التي كان يلقيها، أبعاداً أكثرَ غنىً من الأبعادِ التي تُعطيها، تلك الكلماتُ، وهي مكتوبةٌ على الوَرَق. ولعلَّ في استعراضٍ سريعٍ لبعض نماذجَ مِن كتاباتِ «الزّعِنِّي» ما يُظهر ما يُظهر شيئاً من تجربته على الصَّعيدين الفكريِّ والأدبيِّ.



 رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي