بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 آذار 2024 12:00ص عندما كانت تُقام الاحتفالات وتنطلق المواكب ترحيباً برمضان

حجم الخط
ينتظر العالم بأسره، بكثير من الشوق والحنين، قدوم شهر رمضان المبارك، ليحلّ عليهم ضيفاً عزيزاً، ويُدخل البهجة والسكينة إلى قلوبهم، وخصوصاً انه يكتسب مذاقاً خاصاً، حيث تمتزج فيه الروحانيات والنورانيات مع عبق وقبس العادات والتقاليد والذكريات الرمضانية ذات الطابع التراثي.
لذلك يُستقبل شهر رمضان المعظّم في كافة البلدان والمدن العربية والإسلامية بحلّة زاهية، وتُقام له الاحتفالات إبتهاجاً، وتنطلق المواكب ترحيباً...
***
قِدَم الاحتفال برمضان:
وللدلالة على قِدَم الإحتفاء والاحتفال تعظيماً بالشهر العظيم يفيدنا الرحّالة إبن جُبير عن إحتفالات المكييّن بقدوم شهر الصوم في وصف رحلته كيف كان أهل مكة يستقبلون رمضان المعظّم بقوله: «... وقع الإحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياء، وتفرّقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً... وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلّا وفيها قارئ يصلّي بجماعة خلفه، فيرتجّ المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعاً تخلع له النفوس خشية ورقّة»...
من جهته، وصف إبن بطوطة في رحلته استقبال أهل مكة لشهر رمضان بقوله: «وإذا أهلّ هلال رمضان تُضرب الطبول والدباب عند أمير مكة، ويقع الإحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نوراً، ويسطع بهجة وإشراقاً، وترقّ القلوب وتهمل الأعين»...
***
المواكب الاحتفالية:
ومن المظاهر الاحتفالية بقدوم شهر رمضان المعظّم، المواكب الاحتفالية بقدوم رمضان التي تُعرف «بمواكب الرؤية» أو «مواكب الركبة» والتي غدت من العادات الرمضانية، ترجع إلى عهد الخلفاء الفاطميين في مصر، وتحديداً سنة (362هـ - عام 972م) مع قدوم الخليفة المعز لدين الله.
وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين (شارع المعز بالصاغة الآن) ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح (أحد أبواب سور القاهرة الشمالية) ثم يدخل من باب النصر عائداً إلى باب الذهب (بالقصر)، وفي أثناء العودة توزّع الصدقات على الفقراء والمساكين.
وكانت تُصاحب الموسيقى المواكب وتصدح بأنغام قوية وتحوي بين آلاتها أبواقاً خاصة لا تعزف إلّا بمصاحبة الخليفة، كما انتشر في كل مكان الأعلام التي تحمل عبارات النصر على أسنة الرماح، وكان الناس يحتشدون على جانبي الطريق لمشاهدة موكب الخليفة وإلقاء التحية عليه وتهنئته بشهر الصوم.
***
الاحتفالات في بيروت:
أما بيروت، فإنها كانت تستقبل قدوم شهر رمضان الفضيل بحلّة زاهية، فتزدان شوارعها وزواياها وتضاء فيها المصابيح وتطلق الأسهم النارية ابتهاجاً وتشعّ أنوار مساجدها ترحيباً واحتفالاً بقدوم شهر الصوم والعبادة.
كذلك ما أن يعلن ثبوت شهر رمضان حتى كانت تنطلق الفرق والأفواج الكشفية بمسيرات استقبال للشهر الكريم، وكانت تطوف أحياء العاصمة تتقدمهم حملة الأعلام والمشاعل المضيئة ويرتدي أفرادها الزيّ الكشفي الموحّد على وقع الخطوات المنتظمة. وكان الأهالي ينثرون عليهم الزهور والأرزّ وماء الزهر والورد. وفيما بعد أصبحت المسيرات الكشفية أكثر رونقاً وبهجة في نفوس الأهالي، بعدما صارت تصاحبها الفرق الموسيقية، فتمتزج مشاعر الغبطة بقدوم شهر رمضان بين مختلف شرائح الناس في واحدة من أبرز المظاهر الاحتفالية التي كانت تتكرر كل سنة مع إطلالة شهر الخير والبركة.
إلّا أنه ومع مرور الزمن، اندثرت الاحتفالات الكشفية لتحلّ مكانها خلال الأعوام الماضية المواكب الرمضانية السيّارة التي تجوب الشوارع والمناطق على متنها مجسّمات تمثل معالم تاريخية وتراثية مُطلقة العنان للأغاني الخاصة بالشهر الكريم، لا سيما أغاني المبدع أحمد قعبور، وتقلُّ الأطفال الذين يرتدون ثياباً تراثية جميلة كثياب المسحراتي والعروس المكلّلة بتاج من الورود والأزهار ويحملون الأعلام ملوّحين بها ويوزعون إبتساماتهم البريئة على المواطنين المنتشرين على الأرصفة وشرفات المنازل، فيضيفون أجواء البهجة والفرح والتفاؤل بقدوم شهر الخير والمبرّات. ويعود الفضل لهذه الظاهرة الرمضانية في أرجاء العاصمة بيروت لمؤسسة الرعاية الإجتماعية دار الأيتام الإسلامية، مما يضفي على المدينة طابعاً رمضانياً زاهياً، يعود بذاكرة أهلها إلى الماضي الجميل، ويحفظ هويتها التراثية الخلّابة.
ومن العادات والتقاليد التي جرى عليها الناس إحتفالاً بشهر رمضان المبارك وبأعيادهم المجيدة في بيروت ظاهرة إطلاق الأسهم النارية وإستخدام المفرقعات، تعبيراً عن سعادتهم وبهجتهم برمضان والأعياد وللفت الأنظار بإحتفالهم به على طريقتهم الخاصة ولإعطاء العيد نكهة وخصوصية تميّزه عن باقي أيام السنة.
وللدلالة على قِدَم عادة إطلاق الأسهم النارية خلال العيد نشير إلى ما ذكره الرحّالة الفرنسي بيروكيه الذي زار بلادنا عام 1433 ووصف الاحتفال بالعيد بقوله:
رأيت في بيروت المسلمين يحتفلون بعيدهم على طريقتهم التقليدية، فيبدأ الاحتفال مساءً عند الغروب بالأناشيد وتطلق مدافع القلعة قذائفها والناس يطلقون عالياً في الفضاء صواريخ يفوق حجم الواحد منها حجم أكبر فانوس عرفته.
بالإضافة إلى إطلاق الأسهم النارية، جرت العادة في الماضي عند الإعلان عن ثبوت شهر رمضان وعيد الفطر أن يعمد عدد من «قباضايات» بيروت أصحاب الشهرة الواسعة على تفجير أصابع من «الديناميت» في الجو، خصوصاً في المناطق المطّلّة على البحر لخلوّها من المارة، وذلك للتعبير عن مشاركتهم بالعيد على طريقتهم ولإعطاء الإنطباع للناس على مكانتهم المميّزة بالمجتمع، لأن تفجير «الديناميت» لا شك هو من المحظورات. ويروى في هذا المجال إلى أن أحد «القباضيات» في محلة عين المريسة كان يصعد إلى مئذنة مسجدها لإطلاق وتفجير أصابع «الديناميت» من أعلاها.
***
التهاني بقدوم رمضان:
ومن المظاهر المحببة أنه وفور الإعلان عن وقوع شهر الصيام حتى يُقبل الناس على تهنئة بعضهم بعضاً ويتبادلون التبريكات.
حتى أن الأدباء والشعراء كانوا يهنّئون الأمراء والولاة بنظم الأبيات الشعرية والقطع النثرية التي تتضمن التهاني بالشهر الفضيل.
ومن هذه الأبيات نختار ما نظّمه الصقيلي لأحد الأمراء:
صُمتَ للّهِ صَومَ خَرْقِ هُمَامٍ مُفطّر الكَفايا بالعَطايا الجِسًامِ
أطلعَ اللهُ للصـيامِ هِـلالاً ولنا منْ عُلاكَ بـدرَ تَـمَـامِ
كذلك نختار من ينابيع الأدب العربي هذه الأبيات التي بعث بها أحد الشعراء مهنّئاً صديقه:
شهرُ الصيام جرى باليُمْنِ طائرُهُ ودامَ قصرُكَ مرفوعاً مجالسُهُ
عليكَ ماجـدً باديهِ وحاضـرهِ لزائـريهِ ومنصوباً موائـدهُ
* إعلامي وباحث في التراث