بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 تشرين الثاني 2023 12:00ص غابة ألم

لوحة لزهير غانم لوحة لزهير غانم
حجم الخط
لا يدخل المرء في صورة إعتيادية، غابة الألم، وإنما يشعر في أقسى الأوقات حرجا، أنه تحت غابة ألم.. فجأة ترمي شباكها عليه وتعتقله، فيصبح منذ ذلك الوقت أسيرها.
ما معنى أن يصير المرء أسير غابة ألم؟ ما معنى أن يشعر بقوى قهرية عظيمة، تغالب مداميك قلعته، وتهزّها عن صخرها، تدخل أمواجها العظيمة، في جميع مفاصلها وتهدّد حجارتها، حجرا حجرا، تنخره، تفتت رمله، وتجعل منه حجرا أجوف قابلا للبكاء، كلما قارعته أمواج الألم، كلما اشتدّت ضرباتها، كلما حدبت عليها لطما وتقريعا، كلما سخرت منه، كلما هزأت من هزاله، أمام سوطها، أمام سطوتها.. كلما دفعته إلى جوف الروح، إلى غارها العميق العميق، إلى غارها السحيق، إلى ذلك السديم القابع في العدم؟!
غابة ألم، رمت عليّ كل الغيوم التي تزورها عادة، في مواسم الشتاء والبكاء. كنت سجين عزلتها القاسية. رمت بين يدي، جميع كتب الكآبة. قاصصتني بقراءتها فصلا فصلا، وسطرا سطرا. أنشبت بين عيوني، وفي جدران قلبي، حروفها وجبالها. حفرت في ذاكرتي وديانها. دعتني لتذوّق كأس عمري، دفعة واحدة.
ما هذه المرارة التي شعرت بها؟ ما هذه الأحزان التي هاجمتني على حين غرة، في برهتي القاسية؟ ما هذا الشتاء؟ ما هذا الزمهرير؟ ما هذه الرعود؟ ما هذه الآلام التي قضقضتني، طحنت مني عظامي، نصبت مني عودا ناحلا لطير، نشر عليه كساء فزاعة، عند حلول المساء؟!
غابة ألم غارت في قعر روحي. غابة ألم غارت في عيوني. غابة ألم هاجمتني مثل صقر، نشبت مخالبه في ضلوعي. هكذا كنت عندما رسمتني في جوفها، عندما سحرتني، عندما أرجفتني فوق سرير أمومتي، حين أرتني بأم عيوني برهة موتي، حين أرتني وجه أمي في وجهي، وقلبها في قلبي. وروحها في روحي. حين أرتني صدري العاري، فوق سرير الأمومة، يسخر مني. ينازعني غابة ألم، في نزاع شديد يحاولني.
كانت سماء السرير غابة من ألم. هلا رأيتم غابة تخيّم بأشجارها، فوق سرير الأمومة، تستمطر الرحمات، تستأخر العذابات، تؤجل تساقطي حبة حبة، إلى حين.
صور شتى نازعتني بين سريرين: سرير معلق في السماء. وسماء داجية في سرير.
غابة ألم داهمتني على حين غرة. غابة ألم هاتفتني. غابة حزن أغرقتني. ترى من كان منا: أكثر ألما. أكثر حزنا. أكثر موتا: غابة الألم في مرقدي. أم غابة الروح فوق السرير. 

أستاذ في الجامعة اللبنانية