بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 كانون الأول 2021 12:00ص قراءات حضاريَّة معاصرة في أحداث من التاريخ النبوي الإسلامي (4)

حجم الخط
يكمن الهدف، خلال الحربِ النَّفسِيَّةِ، في تحويل اهتمام العدو عن القضايا الأساس، التي يعمل عليها في الحرب، إلى موضوعات جانبية، تُحدِث في أوساطه أنواعا من البلبلة، والتشتت؛ كما تساهم، تاليا، في إضعاف قواه وتأمين واحد أو أكثر من عناصر التفوُّق عليه. إنَّها، وكما يمكن وصفها، ممارسة التَّرويع بالإعلام. و«الرَّوعة»، ههنا، هي الفزعة؛ وعلى هذا فقد ورد في حديث ينسب إلى الرسول (#) قوله: «اللهم آمن روعاتي»!

يعتبر علماء النفس أن الدخول في حالة الخوف، هو بداية للدخول في الهزيمة أو في الفشل. ومن هنا، أيضا، فان كَثِيراً من الخطط القتالية المعاصرة تعتمد، فيما تعتمد عليه، تخويف العدو، وإدخاله في حالة الفزع أو الرَّوع، قبل بدء المواجهة المباشرة في قتاله. ومن أبرز الوسائل العسكرية والسِّياسِية المعاصرة، للترويع بالإعلام، استخدام ما اصطُلح على تسميته بـ«الطَّابور الخامس». ومصطلح «الطَّابور الخامس» يعني، في الإعلام السِّياسِي أو العسكري، استخدام جماعة من داخل أرض العدو، وممَّن يعيشون بين ظهراني ناسه، لإطلاق أقوال وأخبار وإشاعات تفتُّ في عضده وتساعد على بلبلته وإضعاف قوته؛ تسهيلا للتمكُّن منه، عند احتدام المعركة. ويبدو أن المسلمين الأُول قد عرفوا التَّرويع بالإعلام، وكان واحدا من الأمور التي ساعدتهم في الانتصار على أعدائهم!

إزداد اضطهاد المشركين من أهل «مَكَّة» للنبي (#) ، ومن كان معه من المؤمنين؛ فكان لا بد له، كيما ينشر دعوة الإسلام ويؤسس دولته، من أن ينفذ أمر ربه بالهجرة، الذي أتاه به جبريل عليه السلام، وأن يتابع عمله المؤتمن عليه من مكان آخر غير «مَكَّة»؛ فكان قراره (#) بالتوجه إلى «يثرب»، التي سبق أن بايعه بعض ناسها.

هاجر النَّبِيّ (#) إلى «يثرب»، التي أصبحت «المدينة» فيما بعد، وهو لا يملك إلا إيمانه بربه، وصدقه في إبلاغ الدعوة إلى الإسلام، وإصراره على النجاح فيما هو فيه. لم يكن مع النَّبِيّ (#) أسلحة عسكرية ليحارب بها، ولا أموال لتساعده على إغراء النَّاس بالانضمام إليه. دخل «يثرب» وهو غريب مضطهد من بني قومه، فقد ناصبه زعماء «مَكَّة» ووجهاؤها وكثير من ناسها العداء، بل آلوا على أنفسهم إلا محاربته ومن معه من المؤمنين. لقد حل في «المدينة» ضعيفا بين مستضعفين.

لم يكن من بايع الرسول (#) من أهل «يثرب» أصحاب جاه معنوي، يُرعب من يعاديهم من النَّاس، كما أنهم لم يكونوا أصحاب منعة عسكرية، أو ثروات مالية ضخمة تؤهلهم مساندة النَّبِيّ (#) ماديا وعسكريا، في دعوته إلى الإسلام والعمل على تأسيس الدولة الإسلامية. وكان ثمة أعداء للإسلام وللنبي (#)، جلُّهم من اليهود، يتربَّصون العثرات بالنَّبِيّ (#)، ويجهدون في إفحامه في قضايا الدين؛ كما كانوا لا ينفكون عاملين على محاربته وأتباعه في أنفسهم وأموالهم.

عمل النَّبِيّ (#) على مواجهة هؤلاء الذين كانوا يتربصون به الأذى الفكريّ، فناقشهم، وجادلهم، وسعى إلى إفحامهم؛ فكان منهم من اهتدى إلى الإسلام، ومنهم من أصرَّ على تعنّته ومحاربته للدين. وكانت المحصلة الأساس، في هذا المجال، أن النَّبِيّ أثبت لهؤلاء أن للمسلمين عقيدة دينية واضحة، وأن البناية الفكرية التي يتمسكون بها هي بناية ذات منهج واضح وقوي، بل لا يمكن الاستهانة بها.

صحيح أن هذا الأمر أكد الوجود الفكري للإسلام وللمسلمين؛ لكنه لم يكن كافيا لانتشار الإسلام ولا لتأسيس دولته. كان لا بد من خطوة أخرى، ومن نوعية مختلفة؛ بل كان لا بد من إنفاذ ما ورد في النص القرآني حول العلاقة بين المسلمين والمشركين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُلِلَّهِ إِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير} (البقرة: 193). إن المواجهة الأكبر كانت في ذلك الحين، بين الإسلام والشِّرك، وبين المسلمين والمشركين؛ إنها مواجهة بين الدولة المسيطرة على العرب زمنذاك، «دولة قُرَيْش» في «مَكَّة»، وبين الدولة التي تطمح إلى نشر الإسلام بين العرب وغيرهم، أي «الدولة العتيدة للمسلمين»، والتي كان على رسول الله محمَّد # أن يسعى إلى تحقيقها.

يمكن اختصار هذه الحال بالقول إنَّ النَّبِيّ (#) كان يطمح إلى نشر دعوة، وتأسيس دولة، وهو يعاني، في الوقت عينه، من أمور أساس معوقة لعمله من أبرزها، ضعف القوة العسكرية وقلَّة الموارد المالية وانعدام الحليف الخارجي وضآلة المهابة السِّياسِية.

كما يمكن اختصار ما كان يحتاج إليه النَّبِيّ (#) تحقيق طموحه وواجبه بأن عليه، في هذا الخضم الجارف، ممارسة السباحة عكس التيار بتأمين بسط القوة العسكرية والموارد المالية والتخلُّص من التَّهديدات الخارجية، فضلاً عن بسط المهابة السِّياسِية على الآخرين.

وهذا يعني، عمليَّاً، أنَّه لا بد للنبي (#)، وللمسلمين معه، من مواجهة مباشرة مع العدو؛ مواجهة وجود وتحد مع «قُرَيْش» ومع «دولة مَكَّة»، إن جاز التعبير. فإذا ما انتصر المسلمون على «دولة مَكَّة»، فإنَّهم يفوزون بانتصارهم هذا بتأكيد قوَّتهم العسكرية وتعزيزها، فضلاً عن تأمين مغانم ماليّة كبيرة، وإلغاء تهديدٍ خارجيٍّ أساسٍ، وإبراز مهابة سياسية في وجه الآخرين، أيا كانوا.

وكان السؤال الأكبر، ههنا، كيف تكون هذه المواجهة؛ بل كيف لها أن تكون ناجحة وملبّية لمتطلبات المرحلة الإسلامية؟

كان لا بد، أولا، من تحيّن للفرص، وهذا التحيّن يكون بالبقاء على معرفة وطيدة بأخبار العدو وتفاصيلها. ولقد مارس النَّبِيّ (#) هذا الأمر. ومما لا شك فيه أنه كلّف جماعة ممن يثق بكلامهم بترصد أخبار «قُرَيْش»، وإبلاغه عن تفاصيلها. وحصل أنه سمع بأن أبا سفيان بن حرب آتِ إلى «مَكَّة»، مقبلا من «الشَّام»، في عيرٍ لـ«قُرَيْش» عظيمة، وفي هذه العير أموال لـ«قُرَيْش» وتجارة، كما فيها ما يناهز الأربعين من أبرز رجالات القبيلة، بينهم «مخرمة بن نوفل» و«عمرو بن العاص بن وائل».

إنها، على ما يبدو الفرصة التي طالما بحث عنها المسلمون لتحقيق مهمتهم في نشر الإسلام وبسط دولته. فمواجهة ناجحة مع هذه القافلة قبل وصولها إلى «مَكَّة» تعني كسر شوكة لـ«قُرَيْش»، واستيلاء على أموال وبضائع، كما تعني إعلاما ناجح بين قبائل العرب وأحيائهم وجموع اليهود والنَّصارى عن قوة المسلمين وهيبتهم.

ويبقى السؤال الأبرز، كيف لهذا كله أن يتحقق والمسلمون لا يملكون ما يكفي، من عتاد ورجال ومال وهيبة، لخوض هذه المواجهة؛ التي يبدو أنه كان من الضروري خوضها في تلك اللحظة الأساس والتأسيسية من تاريخ الإسلام والمسلمين.

*****

 (وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة: 

«تعويض النَّقص في معركة بدر الكبرى»)



* رئيس المركز الثقافي الإسلامي