بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تشرين الأول 2021 12:00ص كان الملتقى الراقي لجميع الناس.. كورنيش بيروت البحري بات مرتعاً للموبقات ومثوى للتلوّث البصري

حجم الخط
زياد سامي عيتاني*



هل أبحر بحر بيروت عن كورنيشها غاضباً؟! بعدما هاله التلوث البصري قبل البيئي، الغارق بهما!!!

هل تخلّى بحر بيروت عن شاطئها حزيناً، بعدما شُوّهت معالمه، وصار مرتعاً للموبقات ومثوىً للفاحشة؟!

أسئلة تراود كل من يمشي على الكورنيش البحري لبيروت، فيما ينتحب قلبه حزناً، وتستدمع عينتاه أسفاً(!) للحالة المذرية المريبة، التي بات عليها اليوم، بعدما كان معلماً سياحياً، يقصده الأجانب من أرقى الدول الغربية وأكثرها نمواً وحضارة لإلتقاط صورة للذكرى يفتخرون بها، حتى شُبِّه بـ «ريفييرا» لبنان، لمشابهته «ريفييرا» الشاطئ الفرنسي في «الكوت دازور»، لما كان تمتع به من مواصفات مميّزة.

هذا الكورنيش المميّز، شكّل وعلى مرّ السنين المتنفس الأساسي لأبناء العاصمة، ونقطة جذب سياحية لكل زوّار لبنان من عرب وأجانب، حتى بات جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة بيروت القديمة والجديدة...

****

فالكورنيش كان ملتقى البيروتيين، يتخذون من مساحته المتحررة والمفتوحة واحة يستريحون فيها من هموم الحياة، يقصدونه للتنزّه والترفيه عن النفس، وبحثاً عن الراحة والطمأنينة والهدوء والهواء النقي وأشعة الشمس نهاراً وضوء القمر ليلاً، يتفيأون بأشجاره الأليفة المحفور على جذوعها مئات الأسماء والقصص، والمنتشرة بإنسيابية جمالية، تزيد من روعته، ليتحوّل إلى لوحة طبيعية، تعجز ريشة أي فنان مهما بلغ من الإبداع تصويرها.

كان يجذب كل الناس من كل الفئات، بلا تكليف ولا تفاوت، جميعهم يتحلّون بالرقيّ والأناقة السلوكية والأخلاق الرفيعة والإحترام...

ولأن بحر بيروت لكل الناس، ونقطة لقاء لهم جميعاً، فإنه كان يختصر المجتمع البيروتي بأكمله، ويعتبر ملتقى لجميع فئات المجتمع دون تمييز بين الفقراء والأغنياء ولجميع الأعمار من صغار وكبار.

فالكورنيش كان يتسع للجميع، وملاذ لكل الناس، حيث كان أشبه بمهرجان دائم لا يتوقف ولا يهدأ، يضج بالحياة والحركة والزحمة المنظمة والمتناسقة...

فروّاد رياضة المشي كانوا يعقدون إتفاقاً مزدوجاً معه، واحد صباحي وآخر لفترة بعد الظهر، إذ يؤمّون الكورنيش في فترتين متلاحقتين في اليوم الواحد، لمزاولة رياضة المشي على طول هذه الواجهة البحرية، فيستمتعون الى جانب بعض لحظات الهدوء، بصوت الموج الهادر...

أما الصيادون ترتسم «صناراتهم» المتشابكة على طول الكورنيش لوحة رائعة تلفت عين الزائر، ولكل منهم زاويته الخاصة إختارها بدقّة متناهية وزيّنها بعدّته المستحدثة. هؤلاء لا يستهويهم مشاهدة المارة وإزدحام الكورنيش، فهم قرروا أن يديروا ظهرهم للحياة وأعبائها الثقيلة للإلتفات إلى همّهم الأوحد بالصيد، وتعلّم الصبر...

من جهتهم العائلات كانت تتحيّن لحظة عودة أيام الآحاد والعطل المدرسية لتمضية جانباً من الوقت في أرجائه، فيما أولادهم يلعبون تحت ناظريهم، بكل ألوان الفرح واللهو التي تحاكي براءتهم، حيث كانوا يجدون فيه ضالتهم ليقضوا أجمل الأوقات وأمتعها...

وأول ما كان يشدّ الأولاد بائع دواليب الهواء الملونة المثلثة الأضلع والمصنوعة من الورق اللمّيع والمعلّقة بعود من الخشب الرفيع، والتي تدور مع قليل من الرياح الهادئة، باعثة البهجة في نفوسهم.

كما كان كان يسرق إنتباههم بدهشة «طيارات الورق» بأشكالها وألوانها المختلفة، التي تطير في السماء بواسطة خيطان، فيحلقون بأنظارهم إلى السماء، محاولين اللحاق بها بعيونهم.

كذلك، كان الأطفال ينتظرون بائع «غزل البنات» بدراجته الهوائية، واضعاً أمامه العدّة الخاصة بصناعة الغزلة، مرتدياً زيّاً مزركشاً يستهوي الصغار، منادياً: «شعر البنات.. سكر نبات»، فما أن يقترب منهم، حتى يتحلقون حوله، لمراقبته كيف يحوّل السكر إلى شعيرات وخيوط زهرية بمذاقها الحلو المميّز، منتظرين دورهم حتى يحصلوا على حصتهم.

ولا ننسى كيف كان الأطفال ينتظرون بائع الفستق السوداني الذي يفرش بسطته، وهي عبارة عن قاعدة خشبية، يضع عليها وعاءً حديدياً دائرياً من طبقتين ولها داخون صغير، الطبقة السفلى لوضع الفحم، والعليا لعرض الفستق الساخن ذات الطعم اللذيذ والشهي، ويشك حولها «قراطيس» مصنوعة من ورق مجلات قديمة يعبئها لزبائنه الأطفال وهم ينادونهه «عم عبدو»، مرددين. أهزوجة: «عبدو عبيد أسنانو بيض...» التي يتقبّلها بكل رحابة صدر وإبتسامة، مع حبتين فستق زيادة في «القرطاس»...

****

كثيرة هي الأشياء التي تتغيّر، ولا يبقى منها إلا الذكرى!!!

هذا هو حال كورنيش بيروت البحري، الذي فَقدَ جاذبيته ومتعته وجماليته ورقيّه وناسه الحقيقيين ورواده المعتادين، الذين غادروه إلى غير رجعة لأنهم لا يقوون على رؤية إنحداره إلى الدرك الأسفل من التفلت والإنفلات اللاأخلاقي واللاحضاري(!) حيث أن الكورنيش لم يعد هو الكورنيش، ولا رواده هم ناسهم!!!

فوضى عارمة، زعران «فالتة»، دراجات نارية تسير بين الناس، «سكوتر» وحركات بهلوانية، كراسي وطاولات «بلاستيكية» تعيق حركة المارة، قفز من فوق «الدرابزين» الحديدي، أجساد عارية وعضلات مفتولة ووشوم ترمز لثقافات دخيلة على مجتمعنا يتبادل أصحابها الصراخ والشتائم، تحرش بالصبايا، تضارب بالأيدي والعصي، موسيقى وأغانٍ هابطة تصدح من السيارات المتوقفة، حلقات دبكة، «أراكيل المعسل» المنتشرة في كل مكان والفحم المتناثر، متسولون من كل الأعمار وكل الوسائل بما فيها إستغلال أصحاب العاهات، نشل وسرقة، باعة «ملوثون»، كلاب داشرة، نفايات وقذارات، وغيرها من المخالفات القانونية والأخلاقية!!!

يبقى السؤال: هل من مبادرة لمصالحة بيروت مع بحرها، وترميم العلاقة السحرية التي تربط بيروت وذاكرتها بكورنيشها البحري؟!

------------

* إعلامي وباحث في التراث الشعبي