بيروت - لبنان

3 تشرين الأول 2023 12:00ص لماذا نكتب؟

حجم الخط
في البدء، كان السؤال الدائم: لماذا نحن نكتب؟.. أما السؤال المتفرع عنه، بعد طول إجابة، عن السؤال الأول: ماذا نحن نكتب؟ والجواب على هذا السؤال، يحيلنا على قيمة الكتابة التي نكتبها. كأن السؤال يقول بمعنى آخر: ما قيمة الكتابة التي نحن نكتبها؟. وهذا السؤال أيضا، يضعنا أمام سؤال من نسله، كأنه يسألنا عن فقر الأفكار، وفقر الكتابة، كأنه يحذّر أكثر مما يستفهم، لسبب بسيط: حين تضعف الأفكار عندنا، حين نشعر بفقرها، وهذا ما ينتج عنه ضعف الكتابة وفقرها أيضا، ذلك أن التحذير مشروع، من السقوط في فخ الإستسهال للعمل الكتابي، دون أن يدري العاقل من الكتّاب والمؤلفين، أن الكتابة عمل صعب، لأنه يقوم على تحويل الجوهر الفكري، إلى صيغة متداولة، ومعترف بها، شأن القطع النقدية، التي تعبّر عن الجوهر، في صيغة متداولة، يقرّ بها الصيرفي، ويقبلها ولا يرفضها، لأنه الأدرى بصحتها، من زيفها، من تفاهتها.
حين نريد التعبير عن مأزق الكاتب، وعن مأزق إنتاجه من الكتابة، لا بد من التأسيس على مقولة الجاحظ، في كتابه «البيان والتبين»: «المعاني مطروحة في الطريق وإنما الشأن شأن الألفاظ». وقد ذهب الكثيرون إلى فهم هذه المقولة، فهما خاطئا. ظنوا أن الجاحظ يهوّن من حظ الأفكار في العمل الكتابي. وأن العلامة الجاحظ، يجعل أمر الكاتب منوطا بحسن ديباجته في الكتابة، وبشرف الألفاظ التي يأتي بها، وبكثرة التزيينات اللغوية التي يحشدها، وكذا الأمر ببراعته، في إستخدام الوجوه البلاغية، كأن المعاني شائعة بين الناس، ولا تنتظر، إلّا من يلتقطها عن قارعة الطريق، ويحملها إلى دفاتره وأقلامه ومسوداته، فيرفع من شأنها بالصياغة الكتابية.
أريد أن أنبّه ها هنا: أن الفقر في الأفكار وفي المعاني، هو الذي يتسبب حقيقة، بفقر الكتابة. ولهذا فإن المطلوب في حقيقة الأمر، هو إعمال ذهن الكاتب جيدا، حتى يقع على الجوهر منها. فالأفكار المطروحة في هذا الكوكب، مثل اللقى، فيها الغث وفيها الثمين. ويجب على الكاتب أن يحسن الممايزة ها هنا، قبل الشروع في التدبيج وفي التحبير وفي التحرير.. فأن نعاني فقرا في الإفكار، هو في العين ذاته، أن نعاني فقرا في الكتابة أيضا. فلا كتابة ذات شأن، ما لم تكن تعبّر عن أفكار عظيمة، ذات شأن. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الشرح والتفسير، بمعنى آخر: إن مأساة الكاتب، إنما تكمن في عدم وصوله، أو حصوله على المعاني الضخام. على الأفكار الضخام، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه. ذلك أن الأفكار الضخمة والعظيمة، هي بمثابة الجسور والعمدان، للعمائر العظيمة، وإلّا سيظل البناء هشّا وبلا قيمة، بحيث يغدو كل ما بُني من عمل أدبي على هذا الأساس الواهن بالأفكار، كأنه قد بُني على الرمل.

أستاذ في الجامعة اللبنانية