بيروت - لبنان

9 آب 2023 12:00ص محمد حسين كريم في (حوار مع صديقي المخلص) أدب المشكلات اليومية

غلاف الرواية غلاف الرواية
حجم الخط
في واحد وثلاثين فصلا، تمثل أطول أيام الشهور، ينبري الكاتب: (محمد حسين كريم. حوار مع صديقي المخلص. دار نلسن. رأس بيروت.2023: 220 ص. تقريبا)، لسرد مشكلات الحياة اليومية، في صيغة حوارية إفتراضية، مع الذات المتوارية، خلف صديق، هو عين الكاتب نفسه، يريد أن يكاشف العالم المحيط، بما يعتمل في قلبه، من شؤون وشجون هذا الكائن الذاتي، الذي يعيش تحت ثيابه، الذي يغلّ في بدنه، الذي يتقمص روحه، الذي لا يفارقه، لا في الليل ولا في النهار. هو الذي يتلبسه، مذ كان طفلا حتى النشور، على الرغم من محاولاته الحثيثة، التي تشدّه للإنفكاك عنه، تملصا من خيارات إختارها، أو من مسيرة سارها، أو من صداقة نشأت له فجأة في الطريق الطويل.
واحد و ثلاثون فصلا، بعدد أطول أيام شهر من الشهور، يختصر فيها المؤلف تجربة حياتية عادية، تقع لكل إنسان، كل يوم، إذا ما أراد إحصاء مشكلاته اليومية، يسلّط الضوء عليها، تحادثه ويحادثها، على لسان صديق، في صورة أخ، في صورة أم، في صورة أب، يستعير الصور، يؤلف لها الحكايا، ثم يدعها تستريح معه، على ضفة النهر، أو في مجراه الطويل.. أو ربما، في مجرى العمر القصير.
يتساءل ناشر الكتاب، الأستاذ سليمان بختي، على صفحة الغلاف:
هل تكون العزلة عالما بديلا عن العالم المحيط... الكاتب غاص في أعماق هذة العزلة، رأى من خلالها، كما يرى الرائي في نومه، كيف يدار العالم من أهل السلطة. كيف يعيش الإنسان الحب المكبوت، والعيش بلا حرية. كيف يذهب الصديق ولا يعود. كيف يمتص الأزمات. كيف يمتص الصدمات... ثم كيف يعود إلى الإنزواء والحوار مع الذات، بعد إنفصام طويل. ثم يحيلنا إلى السؤال: هل تكون ذات الإنسان وحدها الصديق المخلص والدائم له؟
سؤال يحمل الكثير من الإشكاليات، يطوي الكثير من المشكلات. وهنا ينفرد الكاتب محمد حسين كريم، في كتابه الذي بين يدينا، بإبتداع نوع جديد من الأدب: أريد أن أسمّيه، أدب المشكلات اليومية.
يطالعنا الكاتب في مبتدأ أمره، بتساؤلات تشكيكية كثيرة، عن جملة التعقيدات الحياتية، عن الأمان المنشود، عن أفضل مكان للعيش في العالم المنكود. فلا يرى كنفا يتسع له، لا يرى كنفا يأمنه إلّا كنف الله. وهذا إذا دلّ على شيء، إنما يدلُّ على يأس من الوجود.
ثم نراه يغوص في تجربته، مذ كان طفلا. كيف كانت الأفكار والتساؤلات تتنازعه، وكيف كانت المشكلات تتكاثر عليه، وكيف كانت أمانيه، تتبلور بدعاء أمه له. يحاول أن يضع خطته للنهوض، بدل النكوص المعتاد، فلا يجد غير وجه أمه، في مرآة الحياة. يختم فيقول: نعم يا أمي، لحظات.. سأكون مع أفراد عائلتي تحت عينيك، على مائدة الطعام.
يخرج الكاتب إلى عالم الأمكنة المتعددة التي يعتادها: أماكن النزهات وأماكن العمل وأماكن السفر، وأماكن المواعيد، وأماكن السكن. فيجد أن أصعب الأمكنة، ما تصيبه الأزمنة بالسكون، ما تحجره الأزمنة، ما تميته الأزمنة الثقيلة، إذا حلّت على المكان. يقول:
«بدأت من رئيس القبيلة، مرورا بزمن المماليك، والرهبان والأباطرة والسلاطين.. وتدرّجت حتى وصلت إلى ما نحن عليه الآن».
محمد حسين كريم، ليس في الواقع والحقيقة، إلّا صديق نفسه، حين هرع يسرد لنا كتابه، بل روايته، بل حواراته، في عمله: «حوار مع صديقي المخلص»، يحاول أن يشرح ما يصيبه في طريق الحياة. يحاول أن يناجي نفسه، أن يحذّرها، أن يجعلها تأخذ حذرها، وهو يبدع في نوع جديد من الأدب، دون أن يدري به، وهو «أدب المشكلات اليومية».
نرى الأديب، يترك نفسه على سجيّتها، يخاطبها في كل إمتحاناتها اليومية، يناقشها، يسائلها، ينصحها، ثم لا يلبث أن يتقبّل النصائح منها. يقيم لنفسه، مجسّما لصديق إخترعه نفسه بنفسه، على هدي من سبقه من الكتّاب، أمثال إبن المقفع، وأبي حيان التوحيدي. خصوصا في كتاب هذا الأخير: «أدب الصداقة والصديق».
يحادث المؤلف أباه، وكأنه أحد أصدقائه. يجعل الحديث يأخذ مداه. يبادر لمحادثته بطريقة عفوية ينشئ حوارا معه في حكم، وفي عظات، وفي وصف، لما يحيط به من زمان ومكان، ولمن حوله من الناس. يقول:
«لا ننكر أن الغرب قدّم لنا الكثير. لكننا في المقابل مهّدنا له بعض الطرق في العلوم والفلك والرياضيات...
مالي ومال كل هذا الكلام. تراني أغوص في رحلة وتجربة ممتعة، مليئة بالإكتشافات.
لا علينا من كل هذا، الفضول مسألة كبيرة في حد ذاتها».
في الفصل الأخير من كتابه، وهو الفصل الحادي والثلاثون، يختتم المؤلف عمله الإبداعي، وهو يناجي، بل يخاطب كلبه، فيقول له: يا ميلو. يا كلبي اللطيف، هل تراك سئمت من حديثي الطويل هذا؟... الفراق قادم لا محال، وإن طال الزمن، وهو من أشدّ الأمور حزنا... بدأت حياتي وحيدا، وأنا الآن وحيد، وسأكون وحيدا في نهايتها.
إنها فلسفة الحياة، نولد وحيدين، ونعيش وحيدين، ونموت وحيدين، مهما كثر الأصدقاء والأحبة، وكانوا قريبين منك...».
كتاب الأستاذ والأديب محمد حسين كريم، أكثر من كتاب حكمة، أكثر من كتاب فلسفة، أكثر من كتاب تجاريب.. إنه كتاب «أدب المشكلات اليومية»، يعالجها بأسلوبه البسيط، ويقدمها عارية مع حلولها وأزماتها، كمن يعثر بها في الطريق.

أستاذ في الجامعة اللبنانية