بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 شباط 2024 12:00ص من أدب الرحلات على شاطئ Grande Motte

حجم الخط
 كان الصباح مشرقا، حين وصلنا في العاشرة، إلى هذه البلدة الحداثية بعمائرها، ذات الأبراج المائلة، ذات السفائن المجنحة، ذات المباني والشرفات المتداخلة، على صورة أشكال هندسية مستوحاة من الجبال والكهوف والقلاع والسفن والإهرامات، حرص فيها مهندسها، على تحديث نموذجها، بحيث تتداخل الشمس مع التهوئة والضوء والنور، لجميع الطبقات في المباني المتحاذية وغير المتساندة، كما العادة في المباني التقليدية. هذه هي المدينة الحداثية المميّزة اليوم، في المستنقعات التابعة لمدينة Mauguio. مدينة سياحية ساحلية كاملة على المتوسط، تضاهي النورمندي والريفيرا وبرازيليا،  بكل معنى الكلمة، إستحدثت هناك وهي بالكامل، من تصميم المهندس جان بالادور - Jean Baladur، إبن عم رئيس الوزراء الفرنسي في التسعينيات من القرن العشرين، إدوار بالادور.
اتخذ القرار في أوائل الستينيات، فجففت المستنقعات، وبوشر العمل فيها. وهناك صورة للمنطقة التي تقوم عليها مدينة (لا غراند موت-La Grande Motte) تعود للعام 1958 تظهر فيها Grande Motte، خالية تماما من أي بناء.
زارها الرئيس شارل ديغول في ذلك الحين، وإطمأن إلى مشروعه: المدينة السياحية على البحر في الجنوب الفرنسي. يتيح للفرنسيين، عشاق الأرض والبحر، أن يمضوا فيها أوقات راحتهم. فهي لكل الفصول الطبيعية. وهي لكل الفصول من العمر. وأما فصلا الصيف والشباب، فهو خاص بها، لأن كل شيء على هندسة الطبيعة والطبيعة الإنسانية، على توقيت، على رغبة، على عشق، خصوصا للأرض والبحر، للأفق والموج.
 في السبعينيات، زارها الرئيس جاك شيراك وخلّد ذكره فيها. أشار على المهندس جان بالادور - Jean Baladur، بساحة وشارع، للنزهات على الشاطئ. واصطفت المقاهي على جميع الجوانب. وصار البحر للمراكب والسفائن السياحية، تراه محتشدا بها، وكأنه يتنفس من الصواري، طوال الوقت، حتى لا يقال يختنق بها.
نزلنا من الحافلة التي أقلتنا من Odyssume، لم نحتج إلّا لنصف ساعة، حتى صرنا في ملعبها. أسرعنا إلى بحرها، إلى خلجانها، نسلّم على الزائرين، على السياح، جاءوا إليها، من فنادقهم، نزلوا من بيوتهم المميزة فيها. فأنت حين تطلّ عليها من بعيد، تشعر، أنك أمام بحر ناشف من الأرض، تعوم فوقها الأبنية الحداثية على شكل سفن، على شكل إهرامات بنسق الإهرامات المكسيكية، لشعوب المايا القديمة وحضارتها التليدة، على شكل إهراءات، على شكل مراكب وسفائن مجنحة أو راسية، وسط غابة من الصنوبر. وتتقاطع أمام ناظريك، جميع الطرقات الداخلية، تتخللها الساحات والمنبسطات والحدائق، كلها تؤدي إلى بوابة واحدة، هي بوابة المدينة الحداثية الجديدة.
كان ذلك المستنقع، قبل أن يجفف ويشهد بناء المدينة السياحية، تتوسطه مزرعة Grande Motte، وكانت تابعة لمدينة Mauguio القريبة منها. وبعد أن استحدثت المدينة السياحية فيها، استحدثت لها بلدية مستقلة، وصارت تابعة لبلديتها المشاطئة للمتوسط، وللخلجان المتصلة بها. وهي لذلك صارت شبه جزيرة، على الرغم من استحداث عدة جزر قبالتها هي بعض من إمتدادها.
وسرعان ما عملت الرساميل الضخمة من المستثمرين، على إستيفاء مشروع المدينة السياحية، جميع الشروط. فكان المرفأ العظيم الذي يستطيع أن يستقبل أعظم المراكب والسفائن السياحية.  وكان الإمتداد الأفيح والأفسح لها. فأقبل عليها عشاق البحر من جميع الأنحاء، من جميع الدول ومن جميع مدن حوض البحر المتوسط. فأشتروا فيها المنازل والعمائر والمتاجر. وأستثمروا بأموالهم العظيمة، في الدور والشاليهات  والفنادق والمحال والأسواق.. وكثر الإحتشاد فيها. وسرعان ما صارت  غاية الطلاب الأجانب في جامعات مونبلييه، وخصوصا الطلاب العرب، يطلبونها للسكن كل شتاء، كما يطلبها أصحابها كل صيف لتمضية أنجع عطلة صيفية.
أتيح لنا أن نقصدها في 27/1/2024، أمضينا نهارنا على أرصفتها، في متنزهاتها. كنا إلى جانب حشود المتنزهين الذين أقبلوا ذاك اليوم الرائع بشمسه وبصفاء سمائه، وبدرجة الحرارة التي نافت على 22c. ننعم بأجمل رحلة، لمدينة سياحية وجدت لتكون أسهل المدن السياحية، تستقبل الأثرياء، كما تستقبل ذوي الدخل المحدود. وتتيح للعائلات الفقيرة، أن تكون مع العائلات الثرية، تتشاطر الشمس والرمل والماء.. فهي لذلك إذن، تلبّي متعة الأثرياء ومتوسطي الدخل والبسطاء، على جميع درجاتهم.
كانت مقاعد البلدية وطاولاتها، متصلة بمقاعد وبطاولات المقاهي المصطفة، بطول الشوارع وعرضها، وفي الزوايا والمنحنيات الجميلة ذات المواقع الآخاذة.
بدت هذه المدينة السياحية الحداثية بالكامل: Grande Motte، مشاطئة لمدينة Etong De L`or، ومشاطئة لمدينة Palavas, ومشاطئة لمدينة Carnot, وكذلك لمدينة Aiguemorte السياحية التي يعود تاريخ بنائها للعصور الوسطى.
فهناك على هذا الشاطئ الدافئ الآخاذ، المجاور لمستنقعات مونبلييه تتعالى عدة مدن، من أجمل ما عرفه الشاطئ الفرنسي على المتوسط، دون أن ننسى مدينة Latte، ومدينة Pérole، وكذلك جزيرة Villeneuve- les- Maguelone، حيث الكاتدرائية التاريخية التي أسست في القرن السادس الميلادي. وفي الجوار البعيد تطل علينا قبالتها، مدينة Sète ومرتفعاتها الخلابة، المشاطئة للمتوسط أيضا. وهي بلدة رسام الأسود والأبيض الشهير: Pierre Soulages، والذي توفي عن مئة وإثنتين، وهكذا يكتمل عقد من المدن البحرية السياحية الفرنسية، يزين جيد مدينة مونبلييه، تلك المدينة الأجمل على ساحل المتوسط في الجنوب الغربي الفرنسي.
كان شاطئ Grande Motte، قد غزته غابات الصنوبر. فترى الحافلة تغيب تحت أشجارها، وترى المتنزهين، يحارون بين الإستجمام على رمل الشاطئ الفضي، أو التنعّم والإسترخاء في وسط الحدائق البلدية الكثيرة، التي تتوسط غابة الصنوبر، وتفترش ظلالها الرائعة.
أجمل عبارة قرأتها، وهي ترحب بالقادمين إلى مدينة بل منتجع Grande Motte السياحية هي: La terre et la mer. حقا إنها مدينة أرض الصنوبر، التي لا تباهيها أية أرض، وهي كذلك في الوقت عينه: قيعان البحر الأزرق الذي يلمع نظافة وسط الخلجان الأخاذة. والأفق اللازوردي العظيم، والموج الطفل الناعم الرقراق الأملس، الذي تتعشقه الأيدي والأقدام والأبدان، قبل أن تبتل به وجوه الشباب والصبايا والحسان والشيوخ وأصحاب الحاجات، وسائر أفراد العائلات.
فهؤلاء أيضا، جعلت البلدية لراحتهم ولحاجاتهم غرف الإستحمام الخشبية الرائعة الجمال.
شكرا Grande Motte على إستضافتك لنا. شكرا للبلدية التي ترعاها. شكرا للمهندس جان بالادور - Jean Baladur الذي صمّمها. شكرا لمن وضع فيها حجر الأساس. والشكر الجزيل للرئيسين الراحلين: شارل ديغول، وجاك شيراك، اللذين زاراها  وأشرفا على حجر الأساس فيها: في التأسيس وفي البناء، وعلى إتمام مشروعها، وجعلها لعموم الساكنين والمستجمين والزائرين، على تنوّع طبقاتهم، دون تحاسد.. ولا إستئثار!

أستاذ في الجامعة اللبنانية