بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تشرين الأول 2023 12:00ص منح الصلح... كاد يصبح رئيساً للوزراء

حجم الخط
بمناسبة مرور ٩ سنوات على غيابه.
نعيد نشره. 

نادراً أن يُلفظ إسمه دون لقب البيك. فهذا اللقب بكل معانيه الحقيقية والأصلية. كان على قياسه، وجاءه ساعياً، ولم يسع هو إليه. اللقب لم يصدر بفرمان، ولم يُشتر بالذهب. إلاّ أنه جاء على كل شفة ولسان. من أساتذته في الجامعة الى رفاقه بها، إلى تلامذته، جُلسائه، في كل ندوة أو منتدى. وحضوره، محاضراَ. وقرّائه، كاتباً. عرفوه بهذا اللقب الذي لازمه منذ أول شبابه إلى آخر يوم في حياته. وسيبقى ملازماً لإسمه كلما ذكر. وسيذكر منح بيك كثيراً. ومراراً، وكلما كان الحديث في بلادنا عن «مفكًر».
ولقب «المفكًر» لا يأتِ من شهادة جامعية، أو مرسوم جمهوري. فكثيرة هي المراسيم، وعديدة هي الشهادات.  
أما المفكرون الذين يستحقون هذا اللقب، فهم قلة القلة، ونخبة النخبة. ومنح بيك كان في مقدمتهم. وإذا كانت قيمة الإنسان تُقاس بالألقاب، وهي ليست كذلك بالضرورة. فمنح الصلح يستحق لقب الأمير والسيد والمرجع. فقد كان أميراً في ثقافته، وفي أخلاقه، وفي سلوكه. وسيداً في وعيه السياسي، ومرجعاً في وطنيته وفي قوميته معاً.
عرفت البيك منذ عقود طويلة. وتربط عائلتي بالدوحة الصلحية وشائج صداقة، ومودة، تعود الى أكثر من قرن من الزمن. وكنت أعتبر الرئيس الراحل تقي الدين الصلح أباً روحياً. كما اعتبر هو جدي محمد جابر آل صفا، أستاذاً له، حيث كتب في مقدمة تاريخ جبل عامل، في كلامه عن أعلامه. «كنت أكثر إحتكاكاً بمحمد جابر مني بغيره من أولئك الأعلام. مما أتاح لي أن أتعرف من موقع التلمذة، إلى روحه الوطنية، وتفكيره الثوري، وسعيه للتحرر من الجمود، والتحجر، والتخلف الإجتماعي، والسياسي».
كان منح بيك خير معوان لعمَه الرئيس، وملازماً له. وقد قلت له مرة أنني سمعت من عمي على لسان جدي محمد جابر آل صفا. أن آل الصلح المسلمين عن حق هم شيعة السنة، وسنة الشيعة. كونهم جسراً قائماً بين ضفتي المسلمين. فابتسم البيك قائلاً «إذا كانت تلك تهمة فإننا لن ننفيها، وإذا كانت شرفاً فإننا بكل فخر ندّعيه».
كثيرة كانت جلساتنا مع البيك، التي كانت تجمع بين المتعة والفائدة. وعندما كنت مسؤولاً عن التوجيه المعنوي في قيادة الجيش على أثر حرب السنتين وإعادة توحيد المؤسسة العسكرية، اقتنصت الكثير من أفكاره وعباراته لتحرير النشرة التوجيهية، ومقالات المجلة العسكرية.  
كانت أكثر من عبارة ينطق بها في مجالسه، أو يكتبها في مقالاته، غير الموقعة، جديرة بأن تسجَل وتتخذ شعاراً.
عندما كنت طالباً في الكلية الحربية، أُعجبت كثيراً بعبارة وردت في إحدى خطب الرئيس فؤاد شهاب، وهي « لا وطنية حيث لا وحدة وطنية». وهي عبارة معبَرة بأنه ليس لأي فريق من اللبنانيين أن يدعي الوطنية، إذا لم يكن مؤمناً بالوحدة الوطنية وساعياً الى تحقيقها. وقد علمت لاحقاً وبعد سنوات أن هذه العبارة هي لمنح بيك الذي كان يُشرف على صياغة خطب الرئيس شهاب مع عمَه تقي بك.
وصفه البعض بأنه كان عثماني الهوى. وهذا الوصف يفتقر للدقة. فمنح الجدَ، وقبله أحمد باشا الصلح، وأبناءه، كانوا من رواد الحركة العربية في وجه التتريك. والعروبة كانت في عقله قضية، وفي قلبه هوية. كما آمن بخصوصية لبنان في العروبة. نظَر للشهابية وانتقد ممارسات أولادها، دون وجل. كان يعتبر أن لبنان جسراً للعلاقات العربية، والعلاقات الغربية. وقد قال لي مرة «أن لبنان هو الرئة التي يتنفس بها الجسم العربي». أما «النوستالجيا» العثمانية، فقد كانت نتيجة طبيعية لنسبه، وتربيته، ونشأته، وإعجابه بإيجابيات النظام العثماني وتعود الى ضميره، وحرصه على الأمانة التاريخية. وقد أغضبته في إحدى الجلسات عندما انتقدت القوانين العثمانية. فأفهمني، وكان على حق، بأن الكثير من القوانين العثمانية ومنها ما يتعلق بتنظيم الدولة، وشؤون الناس وقوانين الإرث، لا تزال سارية وصالحة في
لبنان حتى تاريخه. وأن الانتداب الفرنسي لم يشأ إلغاؤها أو تعديلها بل إستفاد من روحها وبعض نصوصها.  
منذ بداية الحكم الشهابي وطيلة فترته، وإمتداده وبعدها في السبعينات. كان إسم منح بيك قيد التداول عند تشكيل أكثر من حكومة، كوزير للثقافة، للإعلام، أو حتى للخارجية. وكان أكثر من أهل لكل هذه الحقائب. إلا أنها لم تصل إليه. والسبب في غاية البساطة. أنه لم يكن منتمياً لأي من أصحاب القرار، ولم يكن مطيعاً، أو منضبطاً، أو تابعاً.
في عام 1980، على ما أذكر، وعندما حصلت أزمة تفاهم بين الرئيس سليم الحص والرئيس الراحل الياس سركيس، وبعد تكليف الرئيس الراحل تقي الدين الصلح وتفشيله في تأليف حكومة. وإحراجه، وإخراجه، وإعتذاره.  
وقبل تكليف الرئيس الراحل شفيق الوزان. ورد في الكواليس، والمجالس المغلقة، في الجانب اللبناني إسم منح بيك. وأذكر أنني كنت أتناول معه طعام العشاء في النادي العسكري في ليلة هادئة، وسألني عن مدى حدة السوريين بالإعتراض على شخصه!! وفي اليوم التالي تلقيت مكالمة من مسؤول كبير في المخابرات اللبنانية قائلاً لي بالحرف «من كنت معه مساء أمس سيصبح رئيساً للوزراء». إلاّ أن ذلك لم يحصل. حيث علمت أن اعتراض عبد الحليم خدام كان حازماً.  
لقد استعدى رعاة الملف اللبناني في النظام السوري منح بيك دون حجة مقنعة. سوى أنه «ليس ليًَن العريكة». إلاّ أن الرئيس حافظ الأسد كان يعرفه جيداً ويكَن له الكثير من الإحترام.
وهنا استحضر رواية سمعتها، وأكدَها لي الصديق الأستاذ معن بشور. وهي أنه في بداية التسعينات توفيت والدة الرئيس حافظ الأسد. وذهب الآلاف من اللبنانيين للتعزية في بلدة «القردامة» السورية. وجاء من يقنع منح بيك أنه من المستحسن أن يقوم بهذا الواجب.  
عندما وصل البيك الى باحة المنزل، ابتعد عنه المئات من معارفه لعلمهم بمواقفه، واستغرابهم لوجوده. وعندما رأى الحاضرون الإهتمام المميَز للرئيس الأسد بمنح الصلح واحتفاءه به.  انتشر الخبر، ولم يستطع البيك الوصول الى سيارته إلاّ بعد مشقة، من كثرة القادمين للسلام عليه. قلت له بعدها «سامحنا يا بيك هذا هو شعبنا ولن نستبدله بشعب آخر».
يقول باسكال «الفكر هو أثمن ما يملك الإنسان» وقد قال النبي (ص) «تفكًَر ساعة خير من عبادة سنة».  
هنيئاً لك يا منح بك. ففي الدنيا كنت غنياً ولم تعلم. ولك في الآخرة أجر عظيم.