بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 نيسان 2024 12:38ص «مولاي إنّي ببابك» أشهر إبتهال جمع النقشبندي وبليغ بأمر من السادات...

حجم الخط
«مَولاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُّ يَدي... مَن لي ألوذُ به إلّاك يا سَندي؟»..
إبتهال ديني، لا بل أنشودة لشيخ وأستاذ المدّاحين و«غيتارة السماء» الشيخ سيد النقشبندي، تملأ أجواء شهر رمضان وتتسابق المحطات الإذاعية والتلفزيونية على إذاعتها، ليشقّ بصوته الملائكي خارقاً السكون المخيّم، لا سيما قبل آذان المغرب، فتمتلئ القلوب المرتعشة بالإيمان والورع، لما له من أثر في نفوس الكثيرين، فتختلط كلماته مع صوته الرائع المستغيث بالمولى  بمشاعر الصائمين، لتخلق في روحهم شيء من السكينة التي لطالما بثّها النقشبندي بخشوعه... 
ورغم ما تركه لنا الشيخ النقشبندي من أروع كنوز الإنشاد الدينى، فإن لأنشودة «مَولاي إنّي ببابكَ» الشهيرة للشيخ سيد النقشبندي حكاية نسردها في سياق الموضوع، إذ أنه أنشدها بأمر له وللموسيقار بليغ حمدي من الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات الذي كان عاشقاً للابتهالات الدينية، علماً أنه الإبتهال الأول للنقشبندي مسحوباً بآلات موسيقية، رغم تردده وإمتعاضه وشعوره بالحرج في حينه، لإدخال الموسيقى على إبتهالاته وهو الصوفي النزعة!!!
***
• صاحب مدرسة تجديد الإنشاد:
فالشيخ «سيد النقشبندي» قارئ القرآن وأحد من أشهر المنشدين والمبتهلين في تاريخ الإنشاد الديني والذي لقّب بـ«سلطان المدّاحين»، وكان ولا يزال صوته يأسر قلوب الملايين في رمضان، خاصة وقت الإفطار.
وهو صاحب مدرسة متميّزة في الابتهالات، وأبرز مُجددي الإنشاد الديني، حيث يتمتع بصوت، يراه خبراء الأصوات والموسيقيون، أحد أقوى وأوسع الأصوات مساحة في تاريخ التسجيلات، حيث يتمتع بثماني طبقات إضافة إلى العذوبة التي تتميّز بها نبرات صوته...
***
• بدايته حافظاً للقرآن والشعر:
السيد النقشبندي، المولود بقرية دميرة، طلخا دقهلية، عام 1920، بدأ مسيرة الإنشاد طفلاً، منبهراً بالمنشدين والمدّاحين، ولما انتبه لحلاوة صوته، أخذ يتمتم مع نفسه، مقلّداً ما سمع بدقّة شديدة، وتمنّى أن يحظى بما يحظى به المداحون من شعبية ومكانة رفيعة محترمة، وظل يقلّدهم حتى فاقهم روعة، ويضيف، وهو الصغير السن، إحساسه الخاص لما سمعه منهم ونقله عنهم.
بعدها إنتقل طفلاً مع والدته إلى طهطا بسوهاج، وهناك تربّى تربية هي أقرب للصوفية، قامت على محبة الله ورسوله الكريم بفطرة خالصة صافية، حيث حفظ القرآن الكريم وبعضاً من الشعر، الذي كان له عامل كبير في إتقانه للإنشاد والمدح، كما أحاط ببعض الأمور الفقهية فتعمّقت محبته أكثر للإنشاد الديني.
***
• شهرته بدأت من «حي الحسين»:
لعبت الصدفة دوراً كبيراً معه ليعمل بالإذاعة المصرية في تسجيل الأدعية الدينية لبعض البرامج والمسلسلات الإذاعية، كما ساعده أيضا أدائه لعدد من الابتهالات من ألحان كبار الملحنين آنذاك.ففي ساحة المشهد «الحسيني»، حينما لبّى دعوة صديق حميم، للإنشاد في ختام الإحتفال بمولده، رضي الله عنه، أدهش مستمعيه لحلاوة صوته الحاد الذي يلامس السماء، ومنذ تلك الليلة حلّق صوته في سماء العالم العربي، بعدما طلب للتسجيل الأدعية والإبتهالات بصوته، فتهافتت الناس على سماعه وإذاعاته وإقتناء تسجيلاته.
وسعت إليه الشهرة عام 1967، حينما كثّفت الإذاعة إهتمامها بالبرامج الدينية، وكانت الابتهالات ضمن فقراتها الرئيسية، وذاع صيته سريعاً، ودُعي للعديد من الدول المسلمة، من المغرب لأندونيسيا، حتى أصبح ملمّحاً مميّزاً، مصاحباً، للإحتفالات الدينية، ليرتبط رمضان بصوته، كما أصوات كبار القرّاء المصريين.
***
• أمر السادات بجمع النقشبندي وبليغ:
في عام 1972 احتفل الرئيس السادات بخطبة إحدى كريماته، وكان من بين الحضور المنشد الديني المصري الشيخ سيد النقشبندي والموسيقار بليغ حمدي والإذاعي وجدي الحكيم، مع الإشارة في هذا السياق إلى أن السادات كان يستمع بصوت النقشبندي منذ زمن، وعندما إلتقى به هذه المرة خطر بباله أن يُضيف رافداً جديداً لابتهالاته الدينية، فقال لبليغ حمدي: «لمَ لا تلحن للشيخ سيد؟»، ثم أمر وجدي الحكيم بمتابعة الموضوع وإطلاعه على التطورات...
***
• بين حرج النقشبندي وذكاء بليغ حمدي ولد أشهر الإنشاد:
لكن النقشبندي أحسّ بالحرج لكونه أحد القرّاء ومن أتباع الصوفية ولا يمكنه التحوّل لمطرب وخصوصاً أنه يعتبر بليغ حمدي مجرد موسيقار للأغاني الراقصة(!)
فقد كان الشيخ سيد معتادا على الابتهال بما يعرفه من المقامات الموسيقية دون أن يكون هناك ملحن، وكان في اعتقاد الشيخ ان اللحن يفسد حالة الخشوع التي تصاحب الابتهال. 
ولأن الأمر الرئاسي لا يرفض، حضر النقشبندي على مضض، وذهب عدة أيام إلى مبنى الإذاعة برفقة الحكيم، وظل النقشبندي يردد: «على آخر الزمن يا وجدي، يلحن لي بليغ؟»، معتقداً أن بليغ سيصنع له لحناً راقصاً ولن يتناسب مع جلال الكلمات التي ينطق بها في الأدعية والإبتهالات، وحاول الإعلامي الكبير تهدئته، إلّا إنه كان لا يشعر بجدوى ما يحدث، وفكر في الاعتذار، حتى إتفق مع الحكيم على الإستماع لبليغ، وإذا لم يُعجب باللحن الذي سيصنعه، سيرفض الإستمرار.
غير أن بليغ كان ذكيا، فلجأ للشاعر عبد الفتاح مصطفى، وطلب منه أن يكتب له نصا دينيا مشحونا بالرضا والتسليم والرجاء والتوكل على الله وغير ذلك من المعاني التي تطغى على يوميات الشعب المصري المتديّن، وعندما حصل على النص قال للنقشبندي: «سألحّن لك أغنية تعيش مئة عام».
ظل الشيخ النقشبندي طيلة الوقت ممتعضاً، وبعد نصف ساعة من جلوسه مع بليغ في الإستوديو، دخل الحكيم ليجد الشيخ يصفق قائلا: «بليغ ده عفريت من الجن».
ليجمع الاستوديو الإذاعي بين العملاقين «النقشبندي» و«بليغ»، والذي أستطاع بعد ساعة واحدة من استماع الشيخ للحن «مولاي إني ببابك» أن يجعله يخرج عن صمته معلنا اقتناعة الكامل بذلك العمل، لتكون الصدفة وحدها وراء أشهر أنشاد ديني يتم الاستماع له حتى الآن.
وكانت بداية التعاون بين بليغ والنقشبندي، أسفر بعد ذلك عن أعمال وابتهالات عدة، هي: (أشرق المعصوم)، (أقول أمتي)، (أي سلوى وعزاء)، (أنغام الروح)، (رباه يا من أناجي)، (ربنا إنا جنودك)، (يا رب أنا أمة)، (يا ليلة في الدهر)، (ليلة القدر)، (دار الأرقم)، (إخوة الحق)، (أيها الساهر)، و(ذكرى بدر)، التي قال عنها النقشبندي في حديث جمعه بالإذاعي الكبير وجدي الحكيم: «لو مكنتش سجلتهم مكنش بقالي تاريخ بعد رحيلي»... 
***
• بطل فيلم سينمائي لم يكتمل:
وقد لا يعرف الكثيرون أن الشيخ سيد النقشبندي كان على وشك تقديم فيلم من بطولته يجسّد فيه شخصية منشد ديني. 
فقد قام ببطولة فيلم سينمائي بعنوان: «الطريق الطويل»، يحكي قصة حياة منشد ديني، وكان الفيلم إخراج مصطفى كمال البدري، وإنتاج عباس حلمي، وقدّم فيه النقشبندي عدداً من الإبتهالات من تلحين حسين فوزي، ولكن لسوء الحظ توفي المخرج بعد تصوير جزء كبير من الفيلم. مع الإشارة إلى أن أسرة النقشبندي ومحبيه يبحثون عن أسرة المخرج حتى تخرج الإبتهالات التي قدمها الشيخ للنور.
***
• كنوزه مهملة في أرشيف الإذاعة:
يذكر أن النقشبندي كان على مدار 6 سنوات كاملة يقدم في كل رمضان 30 ابتهالا، خلال الفترة من 1969 وحتى 1975، بما يعادل 180 إبتهالاً، وجميعها موجود بالإذاعة، لكن لا يتم إذاعتها، علماً أن النقشبندي كان يدوّن هذه الأعمال التي يقدّمها يومياً في مفكرته بخط يده.
وأشار جامع تراث النقشبندي إلى أن المسؤولين في الإذاعة أهملوا كنوز الشيخ النقشبندي، وحرموا منها الملايين من عشاقه، وأنه يحاول بكل قوته جمع هذا التراث وإنقاذه، والبحث عن أعماله المفقودة والمهملة بالإذاعة.
كما سجل للإذاعة عدداً من البرامج والمسلسلات، ومنها برنامج (مع الله)، ومسلسل (سلطان العاشقين لابن الفارض) من 30 حلقة بطولة عبد الوارث عسر وعباس فارس ويحيى شاهين، ومسلسل (الباحث عن الحقيقة عن سلمان الفارسي)، وشارك الفنانة سميحة أيوب في 30 دعاء، ينشد ويشدو وسيدة المسرح تلقي الشعر، كذلك سجل مع أمال فهمي في برنامج (على الناصية).
وسجل أيضاً 99 حلقة من برنامج (أسماء الله الحسنى) وشارك فيه عمالقة الطرب محمد قنديل وسعاد محمد وكارم محمود، وفي أكتوبر 73 أنشد للقنطرة وللقناة ولبدر أناشيد كثيرة، وكتب له عبد السلام أمين 30 دعاء ولحن له الموجي وسيد مكاوي وكبار الملحنين، كما أنشد قصيدة «البردة».
***
رحل النقشبندي إثر نوبة قلبية مفاجئة، في 14 شباط 1976، عن 56 عاماً، كآخر زُهاد فن الإنشاد، تاركاً لنا ميراثاً فنياً وروحياً، ومثّل مدرسة فريدة في الإبتهال، التي تنقل من يسمعها إلى عنان السماء وإلى عالم آخر من الصفاء والسكينة والتضرع...


* إعلامي وباحث في التراث الشعبي