بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 تشرين الثاني 2023 12:00ص هجرة العصافير

حجم الخط
عصفوران صغيران مع والدهما، يسرعان بالإلتحاق بأمهما..
عصفوران صغيران من لبنان، يغادران إلى فرنسا مثل الكبار، للتعلّم في الخارج.
آن أوان العودة إلى المدرسة. حزم العصفوران الصغيران حقائبهما، تماما كما يفعل تلاميذ الجامعات، حين تسدّ في وجوههم أبواب التخصصات الجامعية عندنا.
عصفوران صغيران، يقفان اليوم على شباك البيت، على الظهر الحقيبة المدرسية، وفي اليد القلم والحاسوب والدفتر المدرسي.
ترى النسيمات هذا الصباح، تتعابث على خصيلات الشعر، على الجبهة الصغيرة، تأخذ قبلة الوداع، وتلويحة للطائرة من بعيد.
بدأت هجرة العصافير إلى أيلول المدرسي، تركت خلفها ألعابها، رمتها للنسيان، وغادرت غير آسفة على شيء، بعدما فَقدَ لبنان الحرف الذي تغنّى به، الذي بنى مجده عليه، الحرف الذي صدّرته صور وصيدا وجبيل وطرابلس، إلى الآفاق.
يقظة العصافير، كانت باكرة هذا الصباح. كانت زقزقاتها تهاتف جميع القلوب، وهي تستعد للرحيل عن غصون الأرز، عن غصون القلب. كتت أراها تخفق بأجنحتها، تماما مثلما يخفق قلب العجوز، في وداع الأنجال والأحفاد.
كانت تطلق زغرداتها، مثل أطفال الملاعب عند الصباح. كانت عجقة العصافير أعظم في القلب، عند الرحيل.
ما أجمل العصافير المهاجرة، حين تعلو الشمس، حين تحط الطائرة.
ترى الأفق قاب عينين لامعتين. ترى الأفق قاب لؤلؤتين على الخدّين. ترى السحب القادمة.. ترى السحب المغادرة.
كل شيء تغيّر في عيوني، وأنا أناظر عصفورين صغيرين، يهندمان الثياب الملونة.
كل شيء تغيّر، وأنا أشرب الدمع من كأس عيوني.
كيف تهاجر العصافير، تترك خلفها أعشاشها، ثم تحلّق.. ثم تتطير؟!
هذي مقاساتي هذا الصباح. يندّى على جبيني الليل، النهار، المساء، والصباح. يندّى على جبيني تعب السنين، ويوم أؤمله بعد حين، يندّى على جبيني الضحك، البكاء، والحنين.
هجرة العصافير، تؤرّخ قلبي اليوم، تؤرّخ قلبي هذا الصباح. هجرة العصافير تؤرقني.. تجعلني لا أنام.
من يهز سرير نومي، ويوقظني بعنف ريشة تطير في المنام؟ من يهز لحن القلب، يضرب بريشته على أوتار قلبي، يعزف لها لحن الخلود، فوق سريري، تهزّه هجرة العصافير، وقد أزفّ الرحيل؟!
ماذا أقول لعصفورين حطّا على غصن قلبي هذا الصباح، رفة من جناح، ودمعة في القلب، وريح طفولة قررت أن تسير، تودّع الأسيجة والأسلاك، تريد أن تحلق فوقها، تريد الوصول إلى غايتها، تريد برا وحبا، وبحرا هادئا.. بحرا واسعا لعينين، تخفق فوقه أجنحة العصافير؟!
هجرة العصافير هذا الصباح تيّمتني. هجرة العصافير هذا الصباح أيقظتني. كيف يفرّ الحالم إلى الوطن الجميل؟ كيف يخبئ ريشاته تحت الجناح في رحلة الألف ميل؟ كيف يصنع الزمن بعينيه منذ الآن، حتى لا يباغته الزمن حين يطير؟
هجرة العصافير هذا الصباح، جعلتني على شفا جرف، على شفا يوم، على شفا غد.
أنظر هجرة العصافير، تحمل الحب والحب في المناقير، ثم تستأذن.. ثم تزمع أن تطير.

أستاذ في الجامعة اللبنانية