بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 تشرين الأول 2021 12:00ص هل بلغت الحياةُ خواتيمَها؟!

حجم الخط
محمود برّي*


يجتاحني اعتقادٌ يترسّخ ويتثبّت باستمرارٍ في اليقين، على الرّغم من أنّ لا دليل منطقيّاً عليه، ومفاده أنّنا، نحنُ فصيلة البشر، من هنا إلى آخر الكوكب، تسلَّمنا الرسالة... وما زال يصل المزيد من سطورِها المقروءة الواضحة تِباعاً في كلّ يوم، بل في كلّ لحظة، من دون أن نَفهم شيئاً منها ولا أن نستوعب مغزاها، ولا أن نعي مَبلغَ خطورتها الهائل وغير المسبوق.

وها نحن نَكتب ونَقرأ ونَخرج ونَعود ونُسافر ونَرجع ونَضع الكمّاماتِ على النصف الأسفل من الوجه أو نرميها جانباً، ونغسل أيدينا بالصابون ونعتمد السوائل المُطهِّرة والبخّاخات المعقِّمة، وقد نَعتمرُ حاجِبات الوجه البلاستيكيّة الشفّافة، وقد نتجنّب التجمّعات، ونَمتنع عن التزاوُر، وعن احتضان الأحبّة وحتّى عن مُصافحتهم، ونُركِّز على مَسافة المترَيْن ابتعاداً، ونَهرب من كلّ مَن يعطس أو يسعل أو يبدو عليه أنّه قد يفعلها، ونكتفي بالاتّصال الهاتفي لتقديم التعازي، ولو كان الراحل من الأقربين.

كلّ ذلك وغيره الكثير بعد من ضروب الحِيطة والحَذَر والتجنُّب والتملُّص والامتناع والتغاضي، وكلّ ما يُمكن أن يتّصل بذلك، ثمّ نطمئنُّ بحماقةِ طريدةٍ تَنصرف إلى التمتُّع بمَضْغِ الحشائش من حَولها، وهي جاهلةٌ بالكامل أنّها ستكون آخر مضغة تمضغها، حيث تعمى عن النِّمر المُتربِّص بها والذي باتت أنيابه على مَرمى نَفَسٍ منها.

نعم. نحن تلك الطريدة الحمقاء الجاهلة، بل المُنكِرة، ويا للعجب العُجاب!. نحن أحفاد عمالقة العلوم المُجلِّية من قَبل الزمخشري حتّى ما بعد آينشتاين وهوكنغ... نحن مَن يحمل هذا الإرث الباهر العظيم من المَعارِف والاختراعات والإنجازات المُذهلة، ثمّ، ومع كلّ هذا المجد، لا ننتبه ولا نعي ولا نُدرك أنّنا دَخلْنا وبالقدمَين، ومعنا هذه الكرة التي نعيش عليها، مرحلةَ النهاية والموت والاندثار.

نعم، دخلنا العتبة، ونحن نُتابع الخُطوَ في اتّجاه الزوال المحتوم، وإنْ كُنّا لا نَفقه حقيقةَ ما هو جارٍ، ولا نَقرأ ما هو مكتوب بوضوح، ولا نَسمع ما يَطرق آذانَنا، ولا نَفقه ما تَلتقطه عقولُنا، وجميعه ممّا تَجاوزَ مرحلةَ الرموز والإشارات والتنبيهات، ليتحوَّلَ إلى وقائعَ ماثلةٍ أمامنا وملموسة ومُثبتة وظاهرة وجلِيّة كما الشمس والبحر والشجر.

نحن، ويا للأسف الذي ينوء ويعجز عن حمْلِ ما ينبغي أن نحمّله من معنى، دخلنا آخر مراحل الحياة التي لطالما كانت تستمرّ بعد موت الأحياء. دخلنا مرحلةَ النهاية حيث بعد يومٍ أو عامٍ أو وقتٍ بات محدوداً، ننتهي إلى عدمٍ وربّما إلى تراب، وتنتهي معنا حكايةُ الحياة البشريّة التي عمَّرت كما يظنّ العُلماء المَعنيّون، حوالى أربعين مليون سنة.

لا مجال بعد لتكذيب ما هو آتٍ، ولا مكان، حتّى لحرفِ نفيٍ، ولا لعلامةِ تعجّب، ولا لنُقطةِ استفهام. آن الأوانُ لنقطةِ النهاية؛ ولن يكون مُمكناً لأحدٍ أن ينزل على السطر أو أن يقلب الصفحة.

ليست حرباً نوويّة سوف تأكل العالَم، ولا زلازل وبَراكين وفيضانات وتسوناميّات، ولا غول يتملّص من حكايا الطفولة ويَهجم. لا شيء من هذا كلّه. القَدر الذي أراه آتٍ يتجسّد بمخلوقٍ صغير، بالغ الصِّغر... أصغر من أن تراه عَيْنٌ مجرّدة. نعم. هو ما عَرفه القارئ، هو هذا الرجيم الذي يسمّونه الفيروس، أحد اصغر المخلوقات الميكروسكوبيّة: كوفيد-19.

لا تتنفّسوا الصُّعداء، ولا يظُنّن أحدٌ أنّها زوبعةٌ في فنجان.

منذ مدّة قالوا إنّهم تجاوَزوا المِحنة في ما اعتُبر بلد مَنشَئِها، الصين. لكنّ الصينيّين ما انفكّوا يُصارِعون الموتَ الزؤام الذي ينزل عليهم. صحيح أنّهم بَلغوا شأواً كبيراً في مُواجَهة الجائحة، لكنّهم لم يتمكّنوا بعد من القضاء عليها وإنهائها بشكلٍ حاسِم. المعنى أنّهم ما زالوا عُرضةً لاجتياحاتٍ جديدة.

الهند اليوم هي المثال الأكثر رُعباً، لكنّها لن تبقى طويلاً على قمّة اللّائحة. فالمُنافَسة شديدة.. ويا للهول. مئات الألوف من المُصابين الجُدد كلّ يوم ومثلهم من الجثث التي يجري تكويمها في الفلوات، حيث تُقصِّر الجرّافات العملاقة عن تدبُّر الحُفر الكافية للدفن.

البرازيل أيضاً. الولايات المُتّحدة الأميركيّة، عملاق العالَم الأكبر تقنياتٍ وعلوماً وقُدُراتٍ طبيّة وبشريّة وماليّة، ما تزال في طليعة الضحايا. ومع كلّ يوم، وربّما مع كلّ لحظة، يُغيّر هذا الموت الفيروسيّ بذلته ليتنكَّر ببذلةٍ جديدة. الطفرات المُتجدّدة منه تتوالى، وهي تتنقّل بين البلدان، فتَعبرُ الهندَ إلى أوروبا بقُدراتٍ غير مُحدَّدة بعد، ولا معروفة.

جائحة كورونا لا تقتل الإنسان فقط. إنّها تقتل الاقتصاد أيضاً. وإنْ لم يُعلِن المَعنيّون حتّى الآن عن قصمِ ظهرِ الاقتصاد العالَمي، فهذا لا يُغيِّر في طبيعة الأمر شيئاً، فالوباء نَهَشَ وما انفكّ يَنهش اقتصاداتِ الدول، ابتداءً من أغناها ونزولاً؛ فالنفقات التي يضطّر الفيروس إلى تسخيرها للأبحاث وللاقتصادات وللمُواطنين في البلدان المُتقدّمة، تُضاف إليها الخسائر المهولة التي يتسبَّبُ بها الفيروس للدورة الإنتاجيّة والتجاريّة والتسويقيّة على مستوى العالَم أجمع، باتت كافيةً وتزيد للتسبُّب بحروبٍ لا تنتهي بين أقوياء الكوكب، ثمّ بين الجميع ضدّ الجميع، بحثاً عن ضرورات الحياة.

سوف يأتي يوم، وهو لم يعُد في ضمير المُستقبل النظريّ البعيد، يصبح القمحُ فيه غلّة نادرة. ونَذكر القمحَ كمادّةٍ غذائيّة أولى وأساسيّة لا غنىً عنها للبشر. وهذا مثالٌ رمزيٌّ لا أكثر. ثمّ الزيوت واللّحوم والحبوب وكلّ ما يُمكن أن يَدخل في مَملكة الاغتذاء؛ فالندرة سوف تُصبح السمة الغالِبة لكلّ مادّة أخرى، غذائيّة كانت أم صناعيّة أو ما سوى ذلك.

كلّ الموادّ سائرة إلى النَّفاد طالما أنّ الإنتاجَ مُعاق في بلاد الإنتاج، ويَتضاءل كمّاً ونَوعاً بوتيرةٍ مُتصاعدة، تحت فأس كوفيد-19. ومن المُستحيل أن يتسالم الجائعون مع غير الجائعين.

روى أحدُ المُعمّرين على مَسمعي منذ سنوات، أنّهم أيّام مَجاعة «سفربرلك» سيّئة الذكر والصِّيت، حاوَلَ الناسُ صُنعَ الخبزِ من البلّوط (ثمرة شجرة السنديان الحُرشيّة). وكان مُرّاً كالعلقمِ كما قال. وكان البعضُ «يغلي» على النارِ النِّعالَ المُهملة لصنع شورباء ما... هذا بعدما استهلك الجائعون الحشائش على أنواعها وأوراق الشجر وكلّ ما ينبت.

كلّ هذا وما زال الفيروس المُتسبِّب بوباء الكورونا يتمدّد ويتوسّع ويتطوّر ويتعدّل بطبيعته ومن تِلقائه، فهل سوف يتسنّى للعِلم، مهما تقدَّم وتطوَّر، أن يَهزم الطبيعة...؟

التساؤل ليس عرضيّاً ولا جانبيّاً ولا هو مجرّد حالة هامشيّة تولّدت من المُبالغة. فالفيروس بطبيعته يبحث عن استمرار حياته، كما الإنسان تماماً، مع فارِق أنّ الإنسان يستعين بالعلوم والتقنيّات والابتكارات بينما الفيروس يسير في مَساره الطبيعي، بمعنى أنّه يَعتمد مقدّرات الطبيعة ليُحافظ على حياته وسلالاته. وحين تكون المُواجَهة بين الطبيعة والعِلم، تتضاءلُ الآمالُ بالحياة.

الجوع حتّى المَجاعة. البطالةُ حتّى انعدام أيّ مقدرة شرائيّة. توقُّف عجلات الإنتاج في العالَم. تزايُد الإصابات بالفيروس حتّى العجز البشري عن المُواجهَة.التقصير الذي لا بدّ منه في تصنيع كلّ شيء تحتاجه دَورة الحياة من غذاءٍ ودواء من باب أَولى. تُصبح كسرة الخبز حُلماً لا يُطال، وكذلك المادّة المنظِّفة والمُطهِّرة والمُعقِّمة، وكلّ مادّة دوائيّة لا غنىً عنها، فإلى أين من كلّ ذلك؟

«غرنيكا» مأسويّة.. لكنْ واقعيّة

هي رؤيةٌ سوداويّة من دون أدنى شكّ، لكنّ سوداويّتها لا تبخسها حقيقيّتها، إذ لا حاجة لاستخدام المخيّلة في رسْمِ هذه الـ «غرنيكا» المأسويّة التي ربّما تكون واقعيّة في مُقبل الأيّام.

وتأتي اللّقاحات. كُثرٌ يعتبرونها حبلَ الإنقاذ الأوّل المُتيسِّر، وآخرون يرونها مشكلةً خطيرة بحدّ ذاتها. علماءٌ وأطبّاء أكثر من أن يُحصيهم العدُّ يرفعون الصوت محذِّرين من اللّقاح، أيّ لقاحٍ وكلّ لقاح. «أسترازينكا» كما بات معلوماً صار بالنسبة إلى كثيرين وسيلةَ قتل، على الرّغم من جبروت بريطانيا في التسويق. «فايزر» ليس أكثر أماناً كما يقول بعض العُلماء المُختصّين، ومنهم أميركيّون، وهناك كثيرون نالوا اللّقاح بجُرعتَيه، وعلى الرّغم من ذلك أصابتهم أعراضُ الداء، ثمّ قِيل لهم إنّه لولا اللّقاح لكانت إصابتهم قاتلة، لكنْ مَن يَعلم حقّاً! ثمّ، هل نسي المُطعَّمون الذين يُنادون بالطمأنينة أنّ جميع اللّقاحات المُتوافرة اليوم، الغربيّة منها والشرقيّة، الروسيّة والصينيّة والأميركيّة والأوروبيّة والكوبيّة وغيرها، كُلّها جرى طَرْحُها في الأسواق على عَجَل، وقبل أن يجري إخضاعها لما يكفي من التجارب والأبحاث، كما جَرَتِ العادةُ قبل طرْحِ أيّ لقاح كان، وهذا عكس ما يُعتبر ضرورة حتميّة لكلّ لقاح قبل طرْحِهِ للاستخدام البشري؟

كلّ ذلك مُتشائم، نعم؛ وسلبيّ، نعم؛ لكنّ الاطمئنانَ لما هو ليس مؤكَّداً مثل الخوف ممّا هو غير موجود. والحقيقة الأساس التي لا يُمكن لأيّ مَنطقٍ عقلانيٍّ تجاوزها ولا نقضها، تُشير من دون لبس، وبكلّ النزاهة العِلميّة، إلى أنّ الفيروس يُواجِه حَربَنا عليه بأساليب الطبيعة للدفاع عن وجوده... ثمّ إنّنا في مُواجهتِنا معه نَستنزفُ مَوارِدَنا ونَخسر المزيد ثمّ المزيد من الأهل والمَعارِف وأبناء الفصيلة، والمزيد من طاقتِنا الإنتاجيّة على المستوى العالَمي، وبعض الدول باتت تستعين بمُدّخراتها من الموادّ الضروريّة. وفوق كلّ ذلك، فالجائحة لم تتعطّل ولم تتوقّف، ولم يتحقَّق كبْحُها.

ولنتذكَّر أنّنا اليوم، الآن، سجَّلنا أربعمائة ألف إصابة جديدة في الهند خلال يَومٍ واحد. 

ولا يُنقِذنا من الأسوأ غير رحمة الله. بالتعاون مع «مؤسسة الفكر العربي» نشرة أفق

---------------

* كاتب من لبنان