بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 شباط 2023 12:00ص هلا هلال في «أمواج بلا عنوان».. أمواج النفس

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
أن ينشر كتاب في بيروت، رغم الوضع الصعب الذي نعرفه جميعا، فهذا دليل على رفض الإذعان للظروف الاقتصادية التي تمرُّ بها البلاد، وهو إلى ذلك فعل ثقافي، يقوم به بعض من نخب المجتمع، الذي لم يستسلم بعد، بل الذي لا يزال يقاوم بأقوى سلاح، وهو سلاح الكلمة، تلك التي تتأبى على الرضوخ للأحوال السياسة كافة، بل تتعالى عليها، كأنها لم تكن.
(أرسمك آهات الدجى/ بين قلبي وأنفاسي/ وأرق الدلال تنهيدة شهد.../ أرسمك بين آهات عمري/ مخلدة في صبا روحي...).
تندفع دور النشر في بيروت، لتلقف كرة النار بصدرها، حتى لا تدعها تحرق الكلمة، الكتاب الكتب، الكاتب، القارئ. حتى لا تدعها تحرق المجتمع، وتحيله رمادا. حتى لا تحترق البلاد، بأمواجها وببحارها، وبالسفن المشرّعة في آفاقها. حتى لا تحترق الأساطيل في الخلجان. حتى لا تحترق النفوس في خلجانها. حتى لا يحترق الأمل، بأجنحة السنونو. حتى لا يحترق الأمل بأجنحة الفراشات. حتى لا يحترق القمر، لا تحترق الشمس. حتى لا يحترق الشعر، حتى لا يحترق الشاعر، دون مساكب الورد، دون عبق الشفق، في الليل الغسق.
(لا تجعل الدموع تشغلك عني/ ولا تدع الأيام تخيب فيك ظني/ لا تحزن على ليل مضى.../ إن أودعته الهجر عني).
هذا هو بإختصار، مشروع كاتب وناشر. رحوان يطحنان القمح، حتى يفديان بيادر الجوع، بفتات النفس، التي تصنع الحب، وتقيم له تمثالا، فوق تراب العيون الجميلة. لا ينظر الشاعر، لا ينظر الناشر، إلى الترب، إلا بوصفها مساكب، صالحة لغرس الود والورد.
(قلب يدق/ وروح تشق صمم الحجار.../ إني أعتكف الزمن، أتنسك الوجود).
على أساس من ذلك، نرى «فواصل»، تتابع في إلتقاط النفوس، في إلتقاط الأمواج، في إلتقاط الدر. تبحث عنه بين: أمواج بلا عنوان.فما بالنا إذا كان الشاعر: (هلا هلال. أمواج بلا عنوان. فواصل. 2023: 178ص. تقريبا).
حقا، نرى المؤلفة، كما الناشر من بعد، تغامر بكل ما لديها في هذا الزمن الصعب. تقذف بنفسها بين الأمواج، لتغسل أمواج نفسها. تطفئها من ألسنة اللهب التي تشعر، أنها تكاد أن تلحق بأثوابها.
(أتوب عن هواك الإزل/حين تصبح الشمس والكواكب/ هفوة في الكون).
حقا لا تبترد النفس إلا بالشعر. حقا لا تبترد الدار إلا بالنشر.. ولا ضير. فتحت كلمة الناشر، على غلاف هذه المجموعة من الخواطر الشعرية، كتب الشاعر نعيم تلحوق: «الأدب الذي يتصل بشغفه لا يضمر... بل يثمر حركة واعية في فهم الوجود... وقلما نجد من يلتفت إلى المعنى رغم أن اللغة هي وعاؤه.. لغة تغلّف معناها... اللغة هي الحياة... وليست القواعد والمنهج... تسبر أغوار روحها... كتاب أسمته (المؤلفة)، ليكون الدليل على حركتها. فلنذهب إلى لغة هلا المتنقلة بين الـ «هي» والـ «هو» وبين الفصحى والمحكية، لنكتشف عالمها...».
(هجرتك والديار باردة الأجفان/ أسائل النفس عن وداد خال/ عن هوان قضى مثل القدر/ وأمان ضجرت لؤم البشر).
طبعا هناك من يتساءل عن الفائدة، ما دامت المكتبات تغص بالكتب، تغص بالمؤلفات، تغص بقراطيس الكتاب والشعراء والأدباء. وهذا هو ربما، بعض المقصود من متابعة النشر. وقديما قيل: «ما أغنى كتاب عن كتاب». وحين سُئل الخليفة عمر بن الخطاب عما هو مختلف عنده، من شرح وتفسير الصحابة، أجاب: «هم رجال ونحن رجال».
فمهما كان عندنا من أمر، فمؤلف الدكتورة هلا هلال، يجب أن يؤخذ فوق كل إعتبار. فهو لا يقلّ حتما عن كونه صدى لنفس ملتهبة. لا يقلّ عن كونه بعض آهات، وبعض أحلام. وبعض تمنيات، وبعض صور لبعض العذابات. فما بالكم إذا ما أجاز نشره «فواصل»، فهو في حقيقة الأمر بعض شعر لشاعر. ولهذا فهو كل إعتبار.
(عاتيات عاتبات/ في صحراء ليل ونهار/ إنهزم الشوق وضاع أثر الربيع/ في صحراء الحب).
في مجموعة أمواج بلا عنوان، لهلا هلال، ضوع أزاهير، وعبق حب وورد. وإلى ذلك هناك نبرة سياسة مستمدة من الموضوعات التي تأثّرت بها وأثّرت فيها وأثرتها في حياتها الثقافية، وفي حياتها الجامعية، وفي حياتها الإجتماعية والمجتمعية. وهي قد تعيد الكتابة في الموضوعات نفسها، مرارا وتكرارا، لأنها قد تعتبر أن لوحاتها، إنما تعبّر عن أحوال النفس وجمالياتها وإختناقاتها وإنسيابياتها. ولهذا تدعها تتهادى مثل حبات القلادة، على رسلها. تنفح في الجمل الرشيقة نفسا جديدا، كلما حاولت أن تجدد نفسها.
(لم يبقَ من خافقي/ سوى طيف/ ذكريات تسري/ بكلي دافئة).
يستمر الأدباء والشعراء والكتاب، في تنظيم قوافل الحبر. كل يوم نراهم يسيرون قافلة. وهذه المجموعة، لا تعدو كونها، قافلة محملة بالحبر والعطر. أناخت أمام دار فواصل، فحلّت بها البركة. فما معنى لبنان، إن لم يكن قلما ودواة، ومطبعة، ودارا لحطّ الرحال، حين تزمع السفر في الجهات. ولهذا نرى الشاعرة هلا، تستلهم من عطر الحبر ما يليق بها، حتى تخرج إلينا بقلائد تزيّن أعناق الأجيال، التي ما عرفت طريقها إلى جبهات القتال. تريد إن تستمر قلما يذكي عطره، نفوس المحبين والعشاق، ويدافع عن المظلومين، ويدفع الحبيب إلى الحبيب.. يدفع الحرب بالحب.
(آه من لوعة قدري/ أيميتني عشقا لورودي ويحييني.../ غرقت مراكب عمري وإرتحلت/ فرست وحدتي وثورة يقيني).
مسعى الشاعرة هلا هلال، لصنع مقام لها بين شعراء الأمس واليوم والغد أيضا، لما لا، إنما هو مسعى طيب، خصوصا إذا ما وافقتها النجاحات، وترقّت بها الأبيات، ورقّت لها الحواشي والقوافي والمعاني، وحلل الشعر، ودرر الألفاظ، لكن هناك عنصر خفي، يجب أن تتنبه إليه، وهو الإستمرار: في الكتابة وفي النشر، وفي نفس الدار. وقديما قال «الزرنوجي»: «شرط الإنسان التعبير. وشرط التعبير الكتابة. وشرط الكتابة النشر. وشرط النشر، هو الناشر». وهذا ما يجب أن نربّي نفوس أجيالنا عليه، في ظل أقسى الظروف التي تمرّ بها البلاد.
(تمضي الحياة بيني هويدة/ من ذكرى الأحزان لا تنضب/ الحوار يتهادى كالسجع/ يروي أرق حكايات الثنايا).
إلى ذلك، تنجح المؤلفة الراقية هلا هلال، في صياغة قصائد تشويقية، تتجاوز ما قرأته من قصائد الأدباء والشعراء الذين ألفت متابعتهم. ولذلك نراها تسير في دربها الخاص من دون إستعارات ومن دون تأثرات تذكر. وهذا ما يشي ربما، بأنها لا تستعير الشعر ولا تستعير التجارب ولا تستعير العواطف، وإنما تقدم الأطباق الشعرية الشهية بصياغة بلدية. إذا ما بدت لديها القدرة، لتأمين محتوى القصيدة بكل مشهديتها وبكل دلالتها، كما بكل إيحاءاتها وعواطفها، وكأنها تريد أن تحجب ما هو غائب، بالقدرة نفسها، على ما هو حاضر، فنراها تحسن السرد النفسي، وكأنه موج بحر عارم يعتمل في نفسها.
(تغادرني نفسي إلى نور أبدي/ تغادرني نفسي إلى فيض/ من الحب الروحي/ تختال في دوائر الهيولى/ تتواصل بشعاع الشمس/ دافئة تلاطف الصلاة/ ساجدة بالأمل والنورانية/ متأهبة للسلام.../ عند بيت من ماء وسلام).

أستاذ في الجامعة اللبنانية