16 شباط 2024 12:00ص وداد حلواني في (طواحين الهوى) المرآة المقعّرة

حجم الخط
حين وقفت على كتاب: «طواحين الهوى. تحرير وداد حلواني وأخريات. توزيع دار نلسن. بيروت 2023. 150ص.»، وجدت نفسي، كمن ينظر في مرآة مقعّرة: تشوّهات عظيمة، أصابت الوجه اللبناني، أصابت وجه لبنان. ولا غرو، أوليس ذلك من فعل الحرب الضروس التي عرفتها البلاد، قبيل الإجتياح الإسرائيلي وبعده، حتى إنمحت الصورة الجميلة للوطن: أجمل بقعة على الأرض، وأجمل عالم للعيش، وأجمل وألطف وأحب شعب.
في كتاب «طواحين الهوى»، تقع على تجربة مختلفة، من تجارب الناس في الحروب، هو كتاب ذو صفات كثيرة.
هو من تحرير خمس عشرة سيدة، طبعن قلوبهن الملأى باللوعة والأسى والفقد، على صفحاته، بلا زينة معهودة في الكتابة، وبلا تزيين مضاف إلى الخواطر والسجايا والإنطباعات والحكايا العارية.
كانت هذة الثلة من السيدات، تطبع القبل على الورق، تماما كما تحملها الوجوه الآسية، وتظهرها في مرآة الحرب، فتظهر، إذ تظهر، وكأنها في مرآة مقعّرة. تلك الحرب التي نزلت بنا، ولم تنصرف عنا بعد.
طواحين الهوى، هو بعض شهادات أهالي المفقودين في الحرب. فكيف يمكن لنا أن نتصوّر الوجوه التي تسرد المآسي، بغير صورة خارجة من قعر مرآة. هي إنعكاس حقيقي لكل هاتيك التشوّهات النفسية والحياتية والإجتماعية والصحية والعقلية والتربوية.. كل هاتيك التشوّهات، التي هي في الأصل، من آثار حرب.
أجمل ما في حكايا هذه السيدات الخمس عشرة، اللواتي تحدثن نيابة، عن آلاف الأهالي المفجوعين بالفقد القسري لأقربائهم، بعيد الإجتياح الإسرائيلي في حزيران-1982، هو تلك العفوية الأهلية: أمهات وأخوات وزوجات وبنات خال، وبنات عم. وربما هن أصدقاء وصديقات، لهؤلاء المفقودين، المخطوفين، المغيّبين، المخفيين قسرا، يتحدثن بفيض من قلوب كليمة، من عيون مفجوعة.. مجروحة.. بأقلام، نزّت ولا تزال تنزّ، ولسوف تظل تنزّ بالدم، قصصا أليمة، قصصا جارحة، قصصا، يضرب على وتر الذات، فيجعلها تبكي شبابا وشابات وكهولا وأطفالا وعرسانا وعرائس، تعثرت بهم الحرب البغيضة، الحرب اللعينة، فجعلتهم فجأة في قعر مرآتها، وكان لنا أن نفتقدهم، وكان لنا أن نرى صورهم المشوّهة، في مرآة هذه القصص العاكسة لجميع تصاوير وجميع تلاوين وجميع فصول الحرب المقعّرة.
لوحات تشكيلية، هو هذا القصص، مليء بالأسى والحزن.. غيوم سوداء، عبرت في سماء البلاد، ذات حرب، جعلت مطرها دما، جعلت القلوب والعيون مفجوعة، جعلت أبنائنا يذوقون موتا، ما كان ليخطر على البال، لو كان في نفوس أهل الحرب، ذرّة من كرامة، ذرّة من ضمير.
فصول من تجاريب مؤلمة، من تجاريب قاتلة، من تجاريب شقية.. هي هذه الحكايا التي جاءت على لسان أهالي المفقودين، أهلي المخفيين قسرا، حتى اليوم، فلا يجرؤا الذين ذهبوا بهم، أن يذكروا أسمائهم. لا يجرؤون أن يقولوا لنا أين هم، بعدما إنطوت الحرب على ما إنطوت، في مرآتها المقعّرة.
دمعة النساء، ليست قرارا بإنتهاء النواح وإنطلاق المسير وحسب، وإنما هو قرار في الحفر في القعر، في الحفر في الصخر، قرار بجعل قعر الحرب، تنفجر بالأسماء، بالضحايا، بالمجرمين، بالمرتكبين، بالجزارين، بمن أخذوا القرار لإطفاء الشموع، وإطفاء الدروب، وإطفاء النجوم في السماء المقمرة.
طواحين الهوى، بما فيه من شهادات صادقة، لأهالي المفقودين والمخفيين قسرا، هو أكثر من كتاب في عيون أهل السلطة. هو أكثر من شمعة بيد ديوجين، يفتش عن الحقيقة في عز الظهيرة، في شوارع أثينا الدامية/ بيروت القتيلة.
كتاب يقول الحقيقة عارية كما هي، يذكّرنا: «إن في الأثلاث لحما ساخنا». يجعلنا نشقى بالجروح التي لم تبرأ بعد من ندوبها، يجعلنا نقف على عمق مأساتنا، نعدّ العِبَر، كما نعدّ العبرات. ثم نعود في اليوم التالي لندخل في أجداثهم/ أجداثنا المفترضة.
كيف يكون اليوم التالي لنا، ونحن لم نبرح بعد البرهة القاسية، البرهة الدامية، البرهة القاتلة؟ سؤال نجعله في قعر الحرب، قعر المرآة العاكسة لها. سؤال نجعله في مرآتنا المقعّرة.

أستاذ في الجامعة اللبنانية