بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 كانون الثاني 2024 12:00ص يرقات الشعراء

حجم الخط
بين الشعراء والقز تشابه عظيم، تشابه دقیق، تشابه يشفّ عن حرير النسيج، اليرقات، أعظم إنتاج القز، والقصيدة، أعظم إنتاج الشاعر، وكلاهما من نسيج الحرير. لست في معرض التفصيل عن «اليرقة» التي هي أول النسيج الناعم الخارق، أول لباس الملكات والملوك، ولكنني في معرض الحديث عن «يرقة الشاعر»، التي إذا ما وضعها، هبّ القوم، كل القوم، هبّت القبيلة، كل القبيلة، هبّ الناس، كل الناس، للاحتفاء بالشاعر وتكريمه وتعظيمه، وتنصيبه وتتويجه شاعرا، في محفل عظيم.
القز يضع اليرقات لباسا للملوك، غير أن الشاعر يصنع القصيدة لباسا له، حتى يتألق بين الناس، ملكا عليهم، في النوادي وفي المجتمعات. يصنع القصيدة تاجا له فيهبّ الناس لتتويجه بها، ويقدّمونه على أنفسهم، يحمدون ربهم، أنه صار عندهم شاعر ما عادوا محرومين من نعمة ربهم عليهم ما عادوا محرومين من نعمة الشعر.
كانت نعمة الشعر إذا ما أصابت قوما، جعلت منهم «شعبا مكرّما مختارا». وقد جاء في تاريخ الشعوب القديمة، أن الناس في القبيلة ما كانوا يغتبطون ولا يفرحون ولا يحتفلون، إلّا لثلاثة: «لولادة صبي، ونتاج ناقة ونبوغ ونباهة شاعر».
يرقات الشعراء، كانت تلك القصائد التي يسارع القوم إلى جنيها، بكثرة ما يلقيها الشاعر في الأندية. فيجعل الناس يفرحون ويرهون ويعتبطون وينتسبون. صار الشاعر ابن القوم وأباهم، صار حكيمهم، تتوّج بالشعر عليهم صار الشعر تاجا له، أينما نزل وأينما حل.
وكلما كانت له قصيدة أذاعها الناس كان من القوم من ينتدب نفسه إذاعة له، وربما كانت له إذاعة، في كل قصر، وفي كل مصر.
كان حرير القصيدة، يغطي الشمس الحارقة عن كل القبيلة. كانت القصيدة تملأ بطون الجوعى، يشعرون أن بيوتهم إمتلات بالطحين.
كانوا يشعرون أنهم هزموا أعداءهم، فلا تحلّ عليهم نامة أو نقمة بعد اليوم. كانوا يشعرون أنهم إمتلكوا «سحر» البراعة» التي تجلب المحبوب من عالم الغيوب، وأن ترد قطعانهم عليهم بعد سلبها لأشهر، أو بعد أيام.
قوم أصابهم الشعر، فغدوا في حراسة دائمة تضع يراعاتهم القصائد كل يوم، تماما كما يضع القز يرقاته، فتنتشر ألوية الحرير على آفاق القبيل وينعم الناس بالأمن والأمان والكفاف، بلا حر ولا قرّ، ويأمنون من الدهر.
يراعات الشعراء، تلد يرقاتهم، تلد قصائدهم تنشر الظل والضوء والضوع، تنشر الدفء والحب، تنشر السحر وتسحر الشمس.
يرقات الشعراء، سحر القول، ووسم البوادي ورايات القوم، في كل نحو، وفي كل وادٍ.
يرقات الشعر عند كل منعطف تهبّ الناس جائزة العبور من الماضي، تماما كما تهبّ الناس جائزة الحضور في كل نادٍ.

أستاذ في الجامعة اللبنانية