بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

28 نيسان 2023 12:00ص أنا من خيبتي وخيبتي منّي

حجم الخط

وأذكرُ أنني كنتُ أداعبُ خيبَتي كفروٍ لقطّةٍ منزلية، وأسمعُ قرقرةَ حُبورها في حُضْني. فالخيباتُ عندي صارتْ أليفةً. أُطعمُها وأُسْقيها. أُربّيها إلى جوار الوقت، وأحميْها من نُباحِه. وكانت تتمسّحُ بي كلّما تركتُها قليلاً ورجعتُ إليها. تضعُ رائحتَها على جلدي، لتُثْبتَ ملكيّتَها لي وحيازتَها لقلبي. هي تُحبُّني بصدْقٍ، وأنا تعلّمتُ كيف أتوقّفُ عن كُرهِها. وخيبتي تتعلّمُ مني ألا تَخمِشَ الهواءَ، وأن تظلَّ وديعةً مع الغرباء. وأنا أتعلّمُ منها إصرارَها على البقاء. ولا أدري لماذا أنا خائبٌ، ولا متى وكيفَ أدركتُ ذلك؟ هل كانت الولادةُ خيبتي الأولى؟ أم الشهادةُ بأنّي حيٌّ على الملأ؟ لكنّ الخيبةَ أتتْني طفلاً. أذكرُ هذا جيداً. كنتُ كائناً أصغرَ من خيبةٍ، لكنّها راودتني عن طفولتي؛ فكبُرتُ بها وكبُرَتْ بي. والخيبةُ قد تكون من شيء أو من لا شيء. الخيبتان عرَفتُهما وحفظتُهما. لكنّي غالباً ما أخلِطُ بينهما. فكانت الخيبةُ تقعُ لي، أُحسُّ بها في أنفاسي، ويسحُّ طعمُها من لساني إلى أقدامي، ولا أعرفُ سبباً واضحاً لها، في المكان والزمان. خيبةٌ ميتافيزيقيّة ربما. كلُّ ما كنتُ أعرفه منذ أوّل لقاءِ لي مع الخيبة، أنّها كانت تدقُّ كياني، وتدخلُ عليَّ بلا استئذان. أنا حقّاً شخصٌ خائب. تعلّمتُ أنْ أقنعَ بهذه الحقيقة، أنْ أدافعَ عن هذه الواقعة حتى لو لمْ تقعْ. فالأكيدُ أنّ ثمّة أشياءَ كثيرةً في حياتي ستجعلُني خائباً عاجلاً أم آجلاً. والتكرارُ عندي سيّدُ الأسرار. لا يحتاجُ ما يتكرّر إلى الأسباب. بل التكرارُ يمنحُ الأسبابَ رونقها العقليّ ليُحافظَ على لُعبتِه الخفيّة، ويُمرّنَ خياله على الأحاجي الكونيّة. والخيبةُ هي تكراري السريّ والمبدع في آن. فما حاجتي إذن لاكتناه الأسباب؟ ما سوف يأتي، سيأتي إمّا منتعلاً سبباً أو حافياً من كلِّ الأسباب. لذلك لمْ أهوَ الأسباب. فتَنَني التكرارُ فقط. والتكرار الذي لا أجدُ له سبباً، هو عندي أعذبُ التكراراتِ وأصفاها. تكرارٌ يُشبهُ خدَّ العنب عند الغروب. هل سألتُ مرّةً لماذا هذه الخيبةُ الدائمةُ تلاحقني؟ ربما فعلت. ومرّات عدّة صرخت، وحين عرَفت انتبهت. هل الخيبةُ حظّي من التكرار؟ لست أدري. أما زلتُ أهذي بالأسباب؟ ربما. لكنّ الخيبةَ علّمتني أيضاً أن لا أسألَ كثيراً. أن أقتصدَ بالأماني. وأن أفكّرَ لأحضِّرَ في كلّ مرّةٍ، نفسيَ وجسميَ، لخيبةٍ جديدة. وأنا رجلٌ محظوظٌ برأيي، لأنني أحفظُ وجوهَ خيباتي كلَّها وأسماءَها وعناوينَها، وأيَّ ألوانٍ كانت ترتدي حين تواعدُني على حبٍ أو على زعلْ. فلخيبتي تاريخٌ ورزنامة وشجرةٌ للعائلة. لخيباتٍ صغيرة وأخرى كبيرة. ولخيبة أمّ، ولخيبة جدّة. ولخيباتٍ أحفاد. ولخيبتي ملامحٌ لطيفةٌ مثلَ اللّيل لا يُميّزها إلا العارفون بحكمَتِه الدفينة. وخيبتي تعرفُني مثلَ ابنها أو مثل عشيقها. أنامُ في حُضنها. وتنامُ في حُضْني. خيبتي قطّتي الأليفة، وأنا كلبُها الوفيّ. بيننا حكاياتٌ للسمَر، ومساحاتٌ للحَمام، وأغنياتٌ للباعة المتجوّلين. وبيننا ضجرٌ وصحراء، نهرٌ وكلام. وبيننا أرضٌ وسماء. "أنا وخيبتي" في عيوني. "خيبتي وأنا" في المرآة. كلُّ شيء يُذكّرني بخيبتي. كلُّ شيءٍ خيبتي. خيبتي كلُّ الأشياء. البحرُ خيبتي من السفر. الهواءُ خيبتي من الطيران. الجبالُ خيبتي من الأودية. الحبُ خيبتي من الوحدة. الصداقةُ خيبتي من الحذَر. الحقيقةُ خيبتي من القوّة. العملُ خيبتي من التأمّل. العمرُ خيبتي من الأبديّة. الواقعُ خيبتي من الحلُم. الفلسفةُ خيبتي من الحقيقة. الكلامُ خيبتي من الصمْت. الكتابةُ خيبتي من النفس. الوصفُ خيبتي من الإحساس. الموتُ خيبتي من الحياة. الحياةُ خيبتي من الولادة. والوجودُ خيبتي من الموسيقا! خيبتي كلُّ الأشياء، ولا شيء. خيبتي اللاشيء. هل أقول أنّ الشيءَ خيبتي الكبرى من اللاشيء؟ هل أَقصِمُ ظهرَ هذا الوجودَ الهائلَ بهذه الثّمة الحقيرة، الخبيثة، الخدّاعة، الولّادة، والمرابية، حين أطردُها من رأسي تماماً، وأُفرّغُ حواسيَ كلَّها من عصائرها النّتِنَة، وأسقطُ جريحاً على صخرةِ العَدَم؟ خيبتي عدَم. وأذكرُ أنّ خيبتَكِ منّي لا تُضاهيها خيبةٌ. خيبةُ الحبيبة. وخيبةُ الرفيقة. وخيبةُ من مشىَ بي على قلبِه ولم يصِلْ. وخيبةُ الوقت من الحجر. خيبتي حَجرْ. لكنّ خيبتَكِ هي خيبتي، هكذا قلتُ لكِ يومها، ولم تفهمي حينَها. لم يكنْ بوسْعكِ أن تفهمي. ولم يكنْ في خاطركِ أن تفهمي شيئاً من كلامي، شيئاً من خيبتي. كانت خيبتُكِ في نظركِ أكبر. وكانت خيبتُك حزناً متوّجاً بالدموع، وبالفُراق، وبنحوْلِ البدَن. قلتُ لكِ: لا حزنٌ في خيبتي ولا يأسٌ. خيبتي حرّة. لم تُصدّقينني. قلتُ لكِ: خيبتي منّي، وأنا من خيبتي. خيبتي ليست من أحد. فأنا خائبٌ بلا سبب. وأنا خائبٌ من كل سبب. أنا خائبٌ ليس منكِ. بل كنتُ خائباً قبلكِ، وبقيْتُ خائباً معك، وسأظلّ خائباً بعدَكِ. أنا خائبٌ منذُ الولادة. أنا خائبٌ من الولادة.