بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

4 آب 2023 12:00ص أنا والفلسفة

حجم الخط
كان يمكن لحياتي ألا تكون لها صلةٌ بالفلسفة. مع ذلك كان هذا الاحتمال ضئيلاً؛ طمستْه الأحداث بيسْرٍ تام. ربما كان الأمر على هذا النحو منذ البداية؛ أي أن تتعلّق النفخة الأولى لوجودي بظلالٍ فلسفيّة باهتة، راحتْ يد القدر تثبّت حوافّها بعنايةٍ حتى ازدادتْ صورتها في نفسي بهاءً ووضوحًا. صارتْ الفلسفة لا تنفكّ عن حياتي أبدًا؛ كأنّها ملامحها الأشدّ بروزًا وظهورًا. وبتّ لا أنظر إلى أحوالي إلا بعيونها، ولا أفكّر في شؤوني إلاّ بما تمليه عليّ من رؤًى مجاوزة. فقد أضحتْ بالنسبة لي الشيء الوحيد الذي لا يستنفد مطلقًا، ولا تسبر أغواره، ولا يبيْن قعْره. على عكس ما يقع لنا مع أغلب الناس؛ إذ ترسم حدود كيانِهم بعد فترةٍ وجيزةٍ، النقطة التي لا تسمح لنا سوى بالدوران المضْجِر حول كوكبهم الصغير. واذا ما حلّ الخصام يومًا مع الفلسفة في لحظة انقباضٍ لاإراديّ للروح أو انكفاءٍ مفاجئ عن متطلّباتها الجوهريّة، فسرعان ما يسود الوئام والحبّ ثانيةً، فتشْحذ الهِمم من جديد، ويمسِك العقل بتلابيب الأشياء التي كاد ينفرط عقْدها وسط صيْحات الاستهْجان القويّة للطمأنينة الجليلة بوجْهِ التفكير الشقيّ. 
في البدءِ كانت الكلمة. وفي البدء تقرّرت العلاقة الغامضة بالفلسفة في كنفِ صمْتٍ طفوليّ غذّاه إحساسٌ بجوّانيّة فائقة جعلتْ الخارج يبدو معلّقًا على علامة تعجّبٍ عملاقة: ما لهذا الصبيِّ ينصِت أكثر مما يفصِح؟ يرتاب من الأشياء أكثر ممّا يقْبِل عليها؟ في المدرسة سمّاه أستاذه بـ«الصامت الأكبر» و»المفكِّر البعيد النظر». مديحٌ عابرٌ خرق حصن «الشي في ذاته» الذي ظلّ ينمو في داخله كالعشب في غير اتجاه. وكان الحزن فاتحة التأمّلِ لديه. حقلٌ شاسعٌ من الأسئلة الموْجِعة كأنّها أزهار شوكٍ لا يسْلم قاطفها من الوخْزِ الشديد أو من قطرات الدّم التي تنبجِس فوق أصابعه كإجاباتٍ حمراء سريعة. لماذا نموت؟ نتحمّل هذا الألم العظيم من دون أن نعرف له سببًا؟ ونفتح عيوننا على قلوبٍ محطّمةٍ؛ فنعيش شظايا حطامها في قلبنا الصغير من غير ذنبٍ اقترفه بعد في هذا الوجود الغامض؟ كانت جدّتي لأمّي التي ترعرعت في حضنها قد فقدتْ ابنها الأصغر محمّد في مقْتبِل عمْره: عقدان وسنوات أربع في طوق الحمامة، ثمّ شهيدًا طار اسمه عاليًا في سماء بيروت عند مبتدأ الحرب الأهليّة. فاجعةٌ أخرجتْ الأمّ عن طوْر حياتها الخالية، فيما أنا طفلٌ يطفو فوق أحزانها المنْهمِرة. ماذا يفعل الحزن بقلبِ صغيرٍ تشرّبه رضيعًا، حبا معه، ونما تحت أظافر أيّامه؟ يضبط إيقاع حياتِه الأولى: تهيّبٌ غير مفهومٍ من الأشياء، انكفاءٌ غير مبرّر عن المشاعر الاعتياديّة لأقرانه، بل فرحٌ بمقدارٍ ضئيل، وإطلاقٌ لمخيّلةٍ حزينة. العالم يشبِه الجدّة!
أخبار ذات صلة